منهجية التخصص وتكاملية الأداء
روى مسلم فى صحيحه أنه لما قدم النبى صلى الله عليه وسلم المدينة وجد بعض أهلها يأبرون النخل – يلقحونه – فقال : ما تصنعون ؟ قالوا : كنا نصنعه ، قال : لعلكم لو لم تفعلوا كان خيراً ، فتركوه فنفضت أو نقصت ، قالوا فذكروا ذلك له فقال : " انما أنا بشر اذا أمرتكم بشئ من دينكم فخذوا به ، واذا أمرتكم بشئ من رأى فانما أنا بشر " .
هذا الحديث الشريف احتوى عدة قواعد نوعية ومنهجية ، منها على سبيل المثال الفارق الجوهرى بين احترام وتقديم التخصص بين الكفاءات والكوادر وبين فصل الدين عن الحياة وعن الشأن العام ، وهذا يترتب على التمييز بين الثوابت والمتغيرات ، وعلى المقدرة على توظيف المواهب والطاقات فى مجالات التخصص فى مشاريع التجديد والاصلاح دون المساس بقيمة وجوهر حضور الدين وتأثيره .
هنا القائد المنهجى صلى الله عليه وسلم – وهو أعلى مرجعية دينية وسياسية – يتراجع على الفور احتراماً للتخصص ولا مانع من ابداء الرأى المبدئى مع الاقرار بأحقية أصحاب الشأن فى مباشرة ما يلزم من تطوير وابداع وجهود تصب فى انجاح مشاريع التنمية ومضاعفة الانتاج .
البعد المنهجى هنا يتمثل فى الاجابة عن هوية " أصحاب الشأن " ممن يجب الاستفادة منهم فى مجالات السياسة والحرب والاقتصاد والزراعة والاستثمار .. الخ ؟ فهل هم علماء الشرع ؟ هل هم الفقهاء ؟ هل هم الدعاة والوعاظ ؟ وهل يشترط مستوى معين من " التقوى " والورع " عند اسناد المهام ؟
الفقيه المنهجى الرائد شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله يقول : " اجتماع الأمانة والقوة فى الناس قليل " ، ولهذا من الصعب بل من المستحيل تحقيق الانجاز المأمول فى مشاريع التغيير والاصلاح اعتماداً على جهود ذوى الأمانة والتقوى الذين بلغوا المستويات القياسية – أو قاربوها – فى الورع والتعبد أو العلم الشرعى ، بالنظر الى أن هناك مستويات أعلى فى خبرات التخصص فى شتى المجالات تفتقد الى هذا المستوى سواء فى تحصيل العلم الشرعى أو الورع والتعبد .
الأمة مليئة بالكفاءات من جميع التخصصات ومن الناحية العلمية فلديها الحد الأدنى من ثقافة الاسلام والوعى بتعاليمه العامة الضرورية لمعرفة الحلال والحرام وأساسيات الدين ، ولهذا اختار النبى صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فى مجال الحرب والشأن العسكرى احتراماً للتخصص بالرغم من أنه أحيانا يفعل ما ينكره النبى وما يخالف الشرع نتيجة عدم المامه الكامل بتفصيلات الأحكام ودقائق الفقه ، لدرجة أنه – صلى الله عليه وسلم رفع يديه الى السماء قائلاً " اللهم انى أبرأ اليك مما صنع خالد " .
وفى سياق البعد الأخلاقى ومستويات الورع والتقوى يقول شيخ الاسلام عن أبى ذر رغم ورعه وتقواه وتحريه الشرع : " كان أبو ذر اماماً فى الزهد والورع ونقاء السريرة لكن النبى أبى أن يوليه امارة بسبب ضعف كفاءته الادارية الذى يفقده عنصراً من عناصر الكفاءة السياسية " .. ولم يكن تأخير أبى ذر فصلاً للدين عن الدولة أو عن الحياة انما احتراماً للتخصص .
بل قال شيخ الاسلام " كتاب الخلافة والملك " : " كان عمر بن الخطاب يستعمل من فيه فجور لرجحان المصلحة فى عمله ثم يزيل فجوره بقوته وعدله " .. بدون سقف هنا – وأنظر لتوصيف الفجور – ما دام فجوره لا يتعدى شخصه للاعتداء على المصالح وعلى حقوق الآخر ، فقد يكون شريب خمر لكنه ضليع فى مجال نادر ، أو له آراء واجتهادات فى السياسة أو الحكم .. الخ من الصعب الحصول عليها عند غيره ، وهنا تكمن أهمية الأداء التكاملى الذى يراعى سنن الله فى خلقه وكون الناس ليسوا على مستوى واحد فى العلم الشرعى والمستوى القيمى والأخلاقى ومستوى التدين ، وفى نفس الوقت لا يدع موهبة ولا طاقة فى المجتمع الا وظفها فى مشاريع رقيه ورفاهيته وانجازاته الحقيقية