أحدث المشاركات
صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 17

الموضوع: دموع خرساء / قصة قصيرة

  1. #1
    الصورة الرمزية عبدالكريم الساعدي أديب
    تاريخ التسجيل : Apr 2015
    المشاركات : 247
    المواضيع : 48
    الردود : 247
    المعدل اليومي : 0.07

    افتراضي دموع خرساء / قصة قصيرة

    ( دموعً خرساء )


    كانت الحشود قوافل مسافرة نحو الجنوب، نحو الموت والخراب، تستجدي من الدروب رائحة بقاياها في ظلّ دموع خرساء، مختنقة بالخنوع والحرمان، يطلّ منها جفاف الزمن المسجى في ظلّ الحرب وأصداء اليأس، قوافل من التوابيت، جحافل من النساء الملتفّة بعباءات الدموع والعويل والفزع، جنود يحلمون بالأياب. كانت الأيام والليالي جراحاً نازفة بعصف الآهات، تلثم شفاه الكون بالصراخ، باحثة عن وجه الله في كونها المنسيّ في منعطف النيران والموت اليومي، عند منعطف المقابر المختنقة برفات القتلى، قتلى تبحث في الظلام عن بقايا كفن، لعلّه يغطي بعض عوراتها. كنت أنا وأمي، نلوذ بدمنا المحترق شوقاً لرؤية وجه أخي الذي عصفت به الأيام في دائرة المحنة، وهو لمّا يزل في مقتبل أحلامه البريئة. كان مساء (الفاو)* غائماً ينقر قلوبنا بالرعب، ومساء وجه أمي مشرقاً بأمل أن تلقاه:
    - لاتخشَ شيئاً، سنلتقيه، أنا أعلم أنّ الموت لايحزّ رقبة الورد، عليٌّ بستان ورد. هكذا قالت لي أمي. كانت شعلة من الكبرياء، وأنا بقايا رماد، أرغب أن أغفو على ملامحه البريئة، في ظلّ دموع أخفيتها خلف جدار الوجل. ولمّا اقتربنا من خلفيات وحدته العسكرية عند أطراف المدينة، تركت أمي خلف الأسلاك الشائكة، مفترشة تباريح قلبها، مبلّلة ريق الكون بما تبقّى من أمل. خلع المساء برقعه، لبس وجه الرعب المدجّج بالعتمة والتيه في احتمالات الفجيعة. كان الضابط برتبة عقيد،كرهته حين نهشتني مخالب عينيه بالموت قبل أن يمدّ يده بالسلام:
    - ما اسم أخيك؟
    - علي...
    صاح على أحد الجنود وملامحه يعتريها الأنزعاج:
    أعطني قائمة أسماء الشهداء.
    جفلت وطافت بي دهشة مطوّقة بحجب خفية على صمت سجلات الموت، سطور تجهش بأسماء غابت في صمت إلى الأبد، كان دمي مشنوقاً بالارتجاف، يرتجّ بحرارة القهر مثل عصفور صغير بيد طفل، كنت أرقب عينيه عن كثب، تقلّب صفحات الماضي، تجتاز الخطوط، خطوط الموت التي لعقت خفقات القلب بقسوة، وأنا معلّق في قبضة عينين تهزأن بأنفاسي اللاهثة بأطياف الحنين وأصداء الذكريات، أخشى أن تفتح لي جرحاً في خاصرة العشق، وممّا زاد ارتباكي أنّه كان يفاجئني كلّ لحظة وعيناه تقفان عند اسم علي، كنت كنصف ميت، أذوق مرّ الهوان:
    - ما اسم أبيه؟
    - ................
    كنت أطوف حول ملامحي المختبئة بين السطور بخشوع ناسك، كان يشبهني تماماً. مرّت ثوانٍ بعمر الكون، وأنا أرتّل في المدى دعاء له نبض خوفي وضعفي وأنين الأمهات، عيناي تدوران بين الأسماء المرثية وبين ظلّ أمي القابعة خلف أسلاك المنايا، إنّها مسافة شهقة موت أو حياة، مسافة ثماني سنوات رعب، متّشحة بسواد القهر والحزن والتلاشي، تدور في قبضة الموت. ولمّا انغلق فضاء المجهول وختم على قلقي بالشمع، تحررت من أسر كابوس العزاء، هرعت إلى أمي ملوّحاً لها عن بعد بضوء أمل لعلّها تستظلّ به، كانت فَرِحة لأنّه لم يمت:
    - ألم أقل لك أن الموت لا يقدر أن يحزّ رقبة الورد؟ أريد أن أراه.
    ومضيت وحدي في سيارة الأرزاق إلى وحدته على أمل أن تراه أمي ولو لدقائق، مضيت والطريق إليه كما حدقة الموت، يغمزنا بجنائز تترى، تتقافز الأشلاء منها، أشلاء افترستها شهوات جنرالات الموت البلهاء، كانت الحرب تنطلق من خلف غرائز الصمت، فتفرّ الأجساد ويبقى الصدى معلقاً بغيمة، يترجّل منها دوي القذائف وأزيز الرصاص، ينخلع من ظلّها صراخ وبقايا رماد، مختلطاً بدخان يترقرق بدم يهذي بأحلام تحتمي بألمها. كان الطريق يلتهم بعض أنفاسي كلّما توغلت في مسافات الموت، مسافات بلا أزمنة، تزدحم بالغموض، بالغضب في ظلّ عبوات ناسفة، وضجيج المجنزرات وأمطار القذائف وبقايا شظايا، والفضاء مشتعل بالأرق والنسيان وظمأ الغزاة. كان الطريق ضريراً قبل آخر خطوة ونحن قاب الموت أو أدنى، الجندي الذي رافقني يحلم بموته في تمام صمت مضيء عند خليج السأم والأوهام، يلتمس خطوات أقرب إلى الجري، أدركت أننا نسير بلا ظلّ، تقتفي خطواتنا مساحة شاسعة من المخاوف، وأنّ الأرض تأخذ شكلّ الخنادق، والسماء تحمل أدمعنا، وظلال وجه أمي الذي ترك زيف المكان وجاء يسعى مرتعشاً في رحلة الإسراء، حاملاً دفء أحضان الأمس. لمحت عن بعد ظلال جنود، لوثت وجوههم سنين الدمار والخراب، كانوا كالموتى يحملون بقايا تعب دفين، تجمعهم حزمة من الجراح وباقة من طيوف الأسى، يصطفون خلف جنائزهم في زمن بِيْعَ فيه الماء والنخل، وصُودرت فيه خلاخيل الأمهات، جدائل الصبايا، ورغيف الخبز، زمن زرع وجه صباحاتنا جرحاً وسط ضجيج الأناشيد وصهيل موائد العهر. كان عليّ أن أقتفي أثره، أرقب أخباره وأنا أرسمه حلماً على قيد الحياة، ألقي السؤال بعد الآخر في موقد الفراغ، لعلّه يزهر فرحاً. كانت الخطى رثة طاعنة بالتعثّر، والموت ملقى بين خنادق صلبت على جدرانها أحلام الطفولة. أرخيت جفن العين، أطلقت في المدى وجه أمي، كان النور خافتاً يسطع ويغيب بين خوافي الريح، أخذ قلبي يرتجف بقسوة، وأنا ألمح شخصاً ما، قادماً نحوي، له ملامحي، فبرزت عيناه من تحت السكون ملوّحاً بـ(بيريته ) السوداء كطيف موشّى بالحنين، يتلو سيرة الخراب، تعانقنا عن بعد وخطواتنا لمّا تزل تحتلّ مواقعها، والشوق محنّى بالدمع، كان العناق مكتظاً باللوعة ومرايا الذكرى، تلاشينا وسط ينابيع العطش، ونحن نكتم دموعنا في سعة من الحضور:
    - لقد تأخرتَ كثيراً.
    - نعم تأخرتُ كثيراً...
    حينها لم يكن للدمع محلّ، وأدركت أنّ قلب أمي لم تخنْه النظرة.

    * الفاو: منطقة في أقصى جنوبي العراق، شهدت أعنف المعارك في ظلّ حرب السنوات الثمان من ثمانينيات القرن العشرين .
    البصرة/ 1986

  2. #2
    الصورة الرمزية كاملة بدارنه أديبة
    تاريخ التسجيل : Oct 2009
    المشاركات : 9,824
    المواضيع : 195
    الردود : 9824
    المعدل اليومي : 1.85

    افتراضي

    قصّ متميّز من قاصّ ماهر بتصوير المشاهد بتفاصيلها ممّا يجعل القارئ منسجما أشدّ انسجام ...
    حبكة قويّة حتّى النّهاية
    جميل ما قرأت !
    بوركت
    تقديري وتحيّتي

  3. #3
    الصورة الرمزية عبدالكريم الساعدي أديب
    تاريخ التسجيل : Apr 2015
    المشاركات : 247
    المواضيع : 48
    الردود : 247
    المعدل اليومي : 0.07

    افتراضي

    الأخت كاملة بدارنة تقديري ومودتي لك، شاكراً إعجابك ومثمناً رؤيتك الجميلة للنص.

  4. #4
    الصورة الرمزية خلود محمد جمعة أديبة
    تاريخ التسجيل : Sep 2013
    المشاركات : 7,724
    المواضيع : 79
    الردود : 7724
    المعدل اليومي : 1.99

    افتراضي

    دموع خرساء
    وحرف رسم بدقة وألم بسرد مائز وحبكة محكمة اخذتنا الى هناك وأطبقت على انفاسنا الى نهاية كان فيها بصيص أمل مع الدموع الخرساء التي صرخت بعمق وعنف
    رائعة رغم الوجع الذي سكنها واحتلنا
    بوركت واليراع
    وسيبقى العراق نخلة سامقة وستمطر السماء نصرا وان طال القحط
    كل التقدير

  5. #5
    الصورة الرمزية عبدالكريم الساعدي أديب
    تاريخ التسجيل : Apr 2015
    المشاركات : 247
    المواضيع : 48
    الردود : 247
    المعدل اليومي : 0.07

    افتراضي

    الأخت خلود محمد جمعة المحترمة، أنا سعيد بمرورك الكريم، شاكراً إعجابك ومثمناً ذوقك الراقي.... دمت لنا أختاً عزيزة.

  6. #6
    شاعرة
    تاريخ التسجيل : Jan 2010
    الدولة : على أرض العروبة
    المشاركات : 34,923
    المواضيع : 293
    الردود : 34923
    المعدل اليومي : 6.70

    افتراضي

    قصّ متقن الأداء اتكأ على فكرة سامية حسا وبعدا، وتصوير للمشاهد ثري مهد للمتلقي سبل عيش الحدث واستلام رسالته بقوتها
    لغة سليمة وحبكة قوية وسرد شائق موفق

    شكرا لجميل حرفك أديبنا
    وأهلا بك في واحة الخير والصحبة الصالحة المتناصحة بصفاء وإخاء

    تحاياي
    تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

  7. #7
    الصورة الرمزية آمال المصري عضو الإدارة العليا
    أمينة سر الإدارة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Jul 2008
    الدولة : Egypt
    المشاركات : 23,787
    المواضيع : 392
    الردود : 23787
    المعدل اليومي : 4.13

    افتراضي

    نص سيطر على الذائقة بقوة لغة وتعابير وتراكيب متلاحقة زادت من روعة وبهاء القصة
    الوصف والتفاصيل وتوافر الزمان والمكان وقوة الحبكة أثرها في إثراء النص
    شكرا كثيرة لمتعة رافقتني هنا أديبنا الفاضل
    تحاياي
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  8. #8
    الصورة الرمزية عبدالكريم الساعدي أديب
    تاريخ التسجيل : Apr 2015
    المشاركات : 247
    المواضيع : 48
    الردود : 247
    المعدل اليومي : 0.07

    افتراضي

    الأخت ربيحة الرفاعي
    شكراً لجميل إعجابك وذوقك الراقي... لقد أنرتي النص بجمال قراءتك.. أنا سعيد ومقدر ترحيبك في واحتنا الجميلة.

  9. #9
    الصورة الرمزية عبدالكريم الساعدي أديب
    تاريخ التسجيل : Apr 2015
    المشاركات : 247
    المواضيع : 48
    الردود : 247
    المعدل اليومي : 0.07

    افتراضي

    الأخت الفاضلة آمال المصري
    أنا سعيد برؤيتك المضيئة للنص، مثمناً إعجابك وكرم مرورك على النص.

  10. #10

صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. دموع الصمت ... قصص قصيرة جداً
    بواسطة أحمد عيسى في المنتدى القِصَّةُ وَالمَسْرَحِيَّةُ
    مشاركات: 23
    آخر مشاركة: 27-02-2017, 08:58 PM
  2. * صَرْخَةٌ خَرْسَاءْ * أحمد الجمل
    بواسطة أحمد الجمل في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 16
    آخر مشاركة: 22-08-2015, 07:28 PM
  3. رسالةُ خرساء
    بواسطة د\أسماء علي في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 8
    آخر مشاركة: 18-07-2009, 10:54 PM
  4. دموع الفرح ،، قصيدة نثرية قصيرة ،، الحمصـــــــي
    بواسطة عبدالرحيم الحمصي في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 04-09-2008, 12:58 AM