( عزلة )
عبر مساحة عينين تلهثان ببقايا دمع خلف ظلّ، يتسع لضوء يتسلّل بخجل من نافذة تفوح برائحة يوم جديد، يمضي مسافراً، مختنقاً بلهفة خطواته صوب غياهب الضوء، لعلّه يتنفس شفاه عالم آخر، يحتضن صمته، أو يوقظ صراخه المختبئ في خاصرة أطلاله المنسية. ثمة حقيبة بالية ترافق عزلته منذ ثلاثين خريفاً، يحفوها صدى أسمال ذكرى مختنقة بالوجع ، وقف بموازاة النافذة، أزاح عن وجهها غبار النسيان، يستغرقه صمت المساء وظلال ماضٍ ينحدر من نعاس سنواته المسكونة بالأرق، تخفق في قبعة الظنون أجنحة، تحلق في سماوات مدينة لم يرها من قبل، المدى الممتدّ بين عينيه ومنعطفات طرقها يلفُّه السكون، سكون كأنّه الغياب ، ينحدر من طوق عزلته الشاهقة بالخواء نحو حدائقها الجميلة الغنّاء، حدائق متّشحة بأكاليل الورد وتغريد الطيور وهمس العشاق، قصور مزيّنة شرفاتها بالفرح والجمال، خطواته تجوب غابة من المواويل، كركرات أطفال بعمر الزهورتجوس ألمه ويأسه، يمسّه هاجس، أنّ الليالي يتيمة والغيوم لاتبرق إلّا دمعاً؟
"هل جفّ عقلي وشاخت روحي أم أنا في بعض وهم ممّا أرى؟"
عيناه ما زالتا تترصدان الطرقات ، لم تملّا من الرؤية، قدماه تعبران من جمال إلى جمال، من شهقة دهشة إلى نشيج بالهذيان، أنفاسه اللاهثة تهبط فوق ساحل البحر، تكتنز رذاذ أمواجه المتكسرة عند شواطئه في محجري فضاء، يتّسع لأحلام المدينة، وقف مندهشاً يتأمل وحدته أمام عجوزين، يتكئ كلّ منهما على كتف الآخر بفرح، يسهران مع القمر، يحدّقان بالنجوم البعيدة كأيّ عاشقين مشتعلين بلهيب الشوق، ينتظران فجراً لامعاً بالحبّ والأمل، حينها أدرك أنّه منفيّ في عوالم غربته، تطارده طفولة تتوسّد يتمها، ظامئة إلى دفء حضن هاجرمنذ زمن الكوليرا ولم يعد، كوابيس تهطل من سقف عزلته، عزلة تهمس بسرّه المدفون في ثنايا سنين القحط والعو، تهتك ستره دموع من خجل، تنفجر في أعماقه رغبة تعجّ بالحياة والندم، يقطر حيرة مطوّقة باللوعة والأسى، يتساءل منكسراً:
"يا ترى من يطرق باب شيبي ويرتق ثقوب صمتي؟"
مرّت أمامه محطات حزينة، رتيبة كدقّات قلبه الهرم، كلّ شيء مرّ سريعاً، المساء، الهمسات، خطوات الفرحين، الأشجار، البحر والسحب الراكضة في أفق السماء، مرّوا جميعاً دون أن يحسّ بوجوده أحد. يحدّق مرّة أخرى في الفراغ برغبة عارمة، يراقب شفتي الكون المشغولة بتسبيح الربّ من فوق أرض تئنّ بجراحه، تنزف دمه، تشكّله جرحاً بلا دم، أقداماً بلا خطوات، لم يرَ سوى أجساد نحيلة غارقة في أحلام الموتى، مدجّجة بعيون لاترى غيرحدود المدن، بينما العتمة لاتنتمي إلّا لأمسه، تتستر بأوهام تهبّ من كلّ صوب، تتنزه في بساتين لاثمار لها، فجأة يسقط باتجاه الماضي، باتجاه ألوان من العاهات، ماضٍ يرسم فوق شطآنه رحلة طيور مهاجرة، قلباً راجفاً بالوجع والضياع، يرسم نخلة مقطوعة الرأس بلون تشتهيه الأكفان، لم يكن لمكانه مأوى في وهج الصدفة، مرّ الأمس الذي كان، وما من شيء يعلّقه في عنق المساء.راح يكتب للنجوم والسماء، يحدّث البحر عن روحه الضالة، المتيبّسة بحلم يبحث عن ظلّه، يتطلّع إلى كوابيس عزلته وعذاباته الخالصة، ما كان بيده أن يأتي هنا، وما بيده أن يختار سقفاً مسكوناً بالعزلة والكوابيس، ولمّا أسدل المساء ستائر بهجته على مدينة لم تغادرها الحياة، أدرك أنه غريب، وحيد، يجذف في مركب تائه في بحرلم يتسع لوجوده، ألقى قبعته المهترئة بالظنون وراح يحلم بفناء يحوي رفات أحلامه .