أحدث المشاركات
صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 11

الموضوع: المعبر

  1. #1
    الصورة الرمزية عبدالكريم الساعدي أديب
    تاريخ التسجيل : Apr 2015
    المشاركات : 247
    المواضيع : 48
    الردود : 247
    المعدل اليومي : 0.07

    افتراضي المعبر

    المعبر

    عبرت الجسر والعابرين، حاملاً ابنتي فوق صدري، وزوجتي تحمل صرة أسمالنا البالية، تاركين خلفنا أطلالاً وخرائب، قوافل موتى وصراخ العذارى البائسات، ألتفتُ ناحية النهر، أحدّق في ضفافه، أتوضأ بأمواجه، وقبل أن أودّع تنهداته تركت ظلال الطفولة وخفقة القلب وديعةً بين الماء والطين، كان الصمت بليغاً عند بوابة العبور، يقطعه صوت الحاج محمود، بين الحين والآخر، ناشداً مواويل الصبر:
    - بزيبز*، يا بزيبز، ألا تسمعني؟ لا تحزن، سنرجع يوماً ما إليك، حينها سـأتلو سيرة الفرح باكياً، وأرقص الجوبي في الطرقات.
    يطلق زفرات في الفراغ، زفرات تنبض برثاء أيام خلت، ويمضي مع الحشود، كنت والمعبرَ لوحة سريالية، امتزجت فيها ألوان الأنين، جوع الأطفال، ودموع أمّ ثكلى، مؤطّرة بحسرات شيخ خذلته السنين، أمسح بكفّي وجه العتمة عنها، لا شيء غير العتمة، أرنو لبيوت خربة موغلة بالأسى، تلوّح لنا من بعيد، تفتح ذراعيها فرحة، نترجّل عن صهوة صحراء ثكلى؛ لنحطّ الرحال عند عتبة الألم، أزيح الغبار عن نافذة خشبية، أتأبّط همّي، أيام تمرّ، في هجعة لياليها تنضج الوحشة، فتراني أبكي بمرارة، أنشدُ من يشاركني بكاء الغربة.
    ابنتي التي ما انفكت تسأل عن حماماتها ولعبها، لا تسمع غير صدى صمتي، أفزّ مرعوباً على أنينها، أنين يصدع القلب، عيناها لا تطرفان، جبينها يتفصد عرقاً، هالة سوداء تُرسم تحت عينيها، ينكأ روحي لهيبُ وجعها، يستبيحني القلق، زوجتي الجالسة على طرف السرير أراها مسكونة بالهواجس، يصفعني التوسل عند لحظة تماحك حيرتي، يستفزّني التساؤل:
    - هل سنتركها تموت؟ اعمل شيئاً.
    كانت الأبواب موصدة، تجتاحني الحاجة، أمسّ جبهتي، فيضٌ من الدمع يسكن مقلتيّ، لا أحد يعرفني، وأنا القادم تواً من جهة قصية، مكبّل بالخوف من المجهول، مكتظّ باللوعة، لم أكن سوى نازح يرتجي بعض أمان، كلّ شيء تركته هناك، فتراني لا أملك غير حطام أحلام تتسوّر بيتاً مهجوراً، كنّا خيولاً هزيلة، تحاول جاهدة أن تنجو بنفسها، حين انزلقت المخاوف على جادة المدينة، لم أر غير قوافل الهاربين، ترشقها المآذن بوابل من صلوات المارقين، أتّبع أثرها، تطرق أبواب الليل تكبيرات مخاتلة، تجوس الخطى حرائق، تخدش الحياء عند مفارق صفعةٍ قطفتْ ثمار البساتين، كانت الليالي موحشة، نتوسّد فيها العراء، وعيون الأعراب المسعورة تحدّق بالسبايا فرحة، تطارد الخطى المرتعشة بالخوف.
    ما زال التوسل، التساؤل، يحدّق بي، يضطرم الأسى في محاجر مكحّلة بالسواد، أشتعل قلقاً، أشهق غيضاً..
    "هل سأمدّ يدي متوسلاً عيون المارّة؟ لا، لن أفعل ذلك، ليس مثلي يعيش على سقط المتاع"
    يقرع سمعه أنين طفلته، صدى التساؤل يبرق ثانية في عيني زوجته اللائذة بزاوية غرفة صارخة بالبرد:
    - ما العمل؟
    يتماوج دمعها، يسحقها الحنين، يؤرقه وباء الجوع، يزداد وجعاً،
    "مليكتي الجميلة، المحمولة على جناح الأماني، أيّ حزن تبرق به عيناك؟ وأيّ جزع يرتدي روحك البهية؟"
    يمسّ ضفيرتها، يلملم أشلاء ما تبقّى من صبره، يلوذ بالفرار، وقبل أن يحتويه الطريق، يصفعه نداء جاره:
    - أبا عاتكة، لا تنسَ، عشاؤك اليوم عندي... سأنتظرك.
    تُومئ لي الطرقات، لا أدري أين تنأى بي الخطى، أنشد نافلة التسكع، لعلّي أهتدي إلى ثمن الدواء، ما من أحد يبصر المسافة الممتدّة بين نبض قلبي الواهن وبين ظلّ السؤال النائم تحت رمش العين، كنت أتنفس ظلام الحيرة، أمتطي صهوة الخيبة، أعدّ خطواتي التائهة على أرصفة غير آبهة بوجودي، المارّة يحدّقون في انكساري، ألوذ بظلّ ابتسامة خجولة دون جدوى، مثخناً بالوجع، ولمّا أدركني الإعياء، أحسست أنّي لا أملك قدرةً على مواصلة السير، أجلس على الرصيف، أسند ظهري إلى الحائط المجاور للمقهى، أطلق استغاثة دون وعي، (يا الله)؛ فتأخذني سِنة من نوم، يخالني أعبر الجسر، أمسك ظلال الدار، رائحة الشبّوي تلوذ بأنفي، لا شيء واجماً أمامي، لا أدري كيف وصلتُ، هل كان الطريق يسخر منّي؟كانت حديقتنا زاهرة بالثمر وعطر الورد، أتأمّل خضرة الأشجار، وهيبة السدرة الخضراء، الحانية على سياج الدار، عيناي تعانقان نخلة تتوسط الحديقة، ما زلت أذكر حين أتى بها والدي، عشقتها مذ كنت صغيراً، أحتمي بظلّها:
    - أبي، أراك مهتمّاً بها كثيراً.
    - بني، إنّها نخلة بصرية.
    أطرق باب الدار،أحسّ أنّي طفل، يهوى اللعب، أطرق ثانية، أنتظر عيون أمّي تفتح لي، فأنا عطش لعناقها، أتنفّس عبقها،أرقص على وقع خطواتها، يتهادى صوتها:
    - انتظر، أيّها الشقي.
    صرير الباب يقرع سمعي، عيناي تطفحان بالاستغراب، أصطدم بوجهٍ ينبض بالرعب، صوته محفوف بالعواء:
    - ماذا تريد؟
    - أين أمّي؟
    يرنو إليّ بعينين حمراوين تتطايران شرراً، خلفه حشد من العيون الزائغة، تسبر أحداقي، يرتبك نبض القلب، أصفرّ خوفاً، أرتجف، سوط الرعب يجلدني، أغرق في نوبة بكاء ناشج، تمتدّ يده نحوي، تخمش أظفاره وجهي، يسيل دمي، أنفلت، ألوذ بالفرار، ترتجف الطرقات تحت خطواتي، تضيق، ألتفت خلفي، ذقون طويلة تطاردني، ترافقهم وجوه كالحة أعرفها، تنكت مقتاً، أدلف يمين الطريق، يبتلعني الزقاق، المدينة يلفّها صمت مطبق، يشبه صمت المقابر، ثمة موتى تتوسد التراب على جانبَي الطريق، أشلاء مبعثرة هنا وهناك، كلاب و قطط نافقة، طيور تحلّق في دخان كثيف، تغتالها رائحة البارود، الناس تهرول في طريقها إلى الجسر، تهمّ بالعبور، الجسر يمدّ عنقه، أصرخ فيهم، لا أحد يسمع صراخي، أغمض عينيّ لعلّي أجد زوجتي وصغيرتي الجميلة، وقبل أن يخيم الليل، كان النهر بعيداً،تلفّني غيمة من رماد، ألوّح بيدي للعابرين، وقبل أن تبتلعني أجفل على صياح صاحب المقهى:
    - اجمع نقودك وارحل، المكان لا يصلح للتسوّل.
    أحدّق في المكان، أراني مفترشاً الرصيف، مسنداً ظهري إلى الجدار، أتمتم بصوت مسموع:
    - يا الله، يا الله، يا....
    استرخي على أمر غير مــألوف، حالي يرثى له، أغضض بصري، أختبئ خلف ابتسامة كليلة، أجمع النقود وأمضي مسرعاً، أحثّ الخطى فقد أدركني العشاء، كان الطريق موحشاً، جاري المسكين يلوّح لي عن بعد، متّكئ على عكاز ملفوف بخرقة بالية، كان فرحاً بقدومي, ينقل خطاه في اتّئاد، يرتّل حفاوة الترحاب، يبعث في القلب مسرّة، يقيّدني الخجل، أدخل الدار خلفه، أتسمّر مكاني، تغشاني فرحة لمّا أبصرت ابتسامة عريضة ترتسم على شفتي عاتكة، تقبل عليّ فرحة:
    - بابا، بابا، أنظر إلى لعبتي، أليست جميلة؟
    أطوّقها بيدي، أضمها إلى صدري، أقبّلها..
    " كم كريمٍ أنت يا إلهي".
    تعاود اللعب مع الصغيرات، كانت بنات جاري شاحبات اللون، حافيات، جلسنا في باحة الدار، لبثت ساكتاً، أستكشف حال هذا الرجل الكريم، لم تكن في الدار إلّا غرفة من طين،كان الفقر والحزن فيه غارقاً، سرت في داخلي شفقة وحزن عليه، لم يكن أمامي إلّا أن أدسّ يدي في جيبي، أخرج النقود وأنثرها على بناته.
    *بزيبز: جسر يربط محافظتي الأنبار وبغداد، عبرت عليه موجات من النازحين بسبب استباحة محافظة الأنبار من قبل تنظيم (داعش) الإرهابي.

  2. #2
    مشرفة عامة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 21,137
    المواضيع : 318
    الردود : 21137
    المعدل اليومي : 4.94

    افتراضي

    ما أصعب أن يشعر الرجل بالذل ـ وما يذل الرجل إلا الحاجة ويقهره أن لا يستطيع الوصول إليها
    وهو مكبل بالخوف من المجهول، مكتظ باللوعة، نازح يرتجي بعض الأمان.
    وما أصعب أن يكون مسئولا عن عائلة تحاول أن تنجو بنفسها من الموت، وتجاهد حالمة بمأوى
    جدار بيت في ليالي موحشة مخيفة ـ بين يديه طفلة مريضة تئن، وزوجة خائفة جائعة أنهكها
    البرد والتشرد والحزن.
    بين حروفك نعيش ويلات الحروب ومعاناة الألم والعذاب والتشرد ـ وإن كنت تحملنا على أجنحة
    حرف فاخر وتصوير باهر وسبك متين ـ فنتلقى ومضات فكرية صاعقة تؤلم بصدقها ، وحروف
    من الدم والدموع.. حروف محرقة تنتحب ـ وصور تبكي الوجع.
    تحياتي لهذا القلم ـ سلمت وسلم مدادك. نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


    همسة : في واحتنا ـ واحة الفكر والخير والأدب لا يكفي أن تكون أديبا بما تكتب
    ولكن أيضا نطمع منك أن تكون قارئا لما يكتبه الآخرون ، مشاركا برأيك في أعمالهم
    وشكرا لسعة صدرك.

  3. #3
    الصورة الرمزية عبدالكريم الساعدي أديب
    تاريخ التسجيل : Apr 2015
    المشاركات : 247
    المواضيع : 48
    الردود : 247
    المعدل اليومي : 0.07

    افتراضي

    الأخت الفاضلة نادية محمد الجابي
    ممتن لحضورك وشكراً لجميل إعجابك.. إن شاء الله سنكون حاضرين مع نصوص الآخرين

  4. #4
    الصورة الرمزية خلود محمد جمعة أديبة
    تاريخ التسجيل : Sep 2013
    المشاركات : 7,724
    المواضيع : 79
    الردود : 7724
    المعدل اليومي : 1.99

    افتراضي

    تعددت المعابر واختلفت الاسباب وقصة الوجع واحدة
    صور رسمت بدقة وبراعة بسرد ماتع وأسلوب شائق
    اسجل اعجابي
    تقديري

  5. #5
    الصورة الرمزية عبدالكريم الساعدي أديب
    تاريخ التسجيل : Apr 2015
    المشاركات : 247
    المواضيع : 48
    الردود : 247
    المعدل اليومي : 0.07

    افتراضي

    الأخت خلود محمد جمعة
    ممتن لجميل إعجابك... رعاك الله

  6. #6
    الصورة الرمزية مصطفى الصالح أديب
    تاريخ التسجيل : May 2014
    الدولة : شرق الحلم
    المشاركات : 1,031
    المواضيع : 44
    الردود : 1031
    المعدل اليومي : 0.28

    افتراضي

    السلام عليكم
    كنت أتمنى أن يكون الخط أكبر (بحجم 5 مثلا) فالصغير متعب ويؤذي العين
    لندخل في النص
    عائلة هائمة على وجهها مع الجموع، ثم انتقال إلى نافذة خشبية، ثم انتقال إلى البنت المريضة والأم والأب يجلسان على طرف السرير، أي سرير وأي بيت هذا وقد خلفنا البيوت وراءنا؟
    أمسّ جبهتي،>> أرى ألمس أفضل والمس غير اللمس
    أمسّ جبهتي، فيضٌ من الدمع يسكن مقلتيّ>> لم أر علاقة بين الجملتين
    لا أحد يعرفني، وأنا القادم تواً من جهة قصية،>> من هنا نعرف أنه حط رحاله في مكان آخر غريب، بينما كان الأفضل تقديمها كي يظل القاريء متابعا الأحداث
    ترشقها المآذن بوابل من صلوات المارقين>> تصوير شعري جميل
    قفزت فورا إلى الفقرة الأخيرة حيث وجد ابنته
    كنت مضطرا فالخط صغير يزغلل العيون والنص فيه صراحة ترهل كبير
    طال أكثر من اللازم في وصف المعاناة والمآسي
    كنت أتوقع النهاية بمأساة أكبر، لكن الحمد لله على السلامة
    لم أفرح كثيرا فليست داعش وحدها من تقتل.....
    نصيحتي أن تحاول الاختصار ما استطعت فالقصيرة عندنا لا تحتمل كل هذا، في الغرب ربما يسمحون بحجم أكبر وقد قرأت، وأرجو أن تقوم بتكبير الخط، وبما أنك لن تستطيع فنرجو من المشرفين فعل هذا
    اللغة جيدة خالية من العيوب، سوى التركيب الذي أشرت إليه

    تحياتي
    اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

  7. #7
    الصورة الرمزية عبدالكريم الساعدي أديب
    تاريخ التسجيل : Apr 2015
    المشاركات : 247
    المواضيع : 48
    الردود : 247
    المعدل اليومي : 0.07

    افتراضي

    الأخ الفاضل مصطفى الصالح
    ممتن لحضورك البهي ولجميل انطباعك وملاحظاتك القيمة... رعاك الله

  8. #8
    الصورة الرمزية د. نجلاء طمان أديبة وناقدة
    تاريخ التسجيل : Mar 2007
    الدولة : في عالمٍ آخر... لا أستطيع التعبير عنه
    المشاركات : 4,224
    المواضيع : 71
    الردود : 4224
    المعدل اليومي : 0.68

    افتراضي

    المعبر... ومعاناة تختبئ بين الماء والطين .. وبين الواقع والأمل... هنا تداخلت الصور والمشاعر ما بين غفوة الكاتب وواقعه. المعبر.. وقصة سردية هي ابنة تيار الوعي الحداثي .. صور رائعة واحساس جارف وإن طال القص قليلا.. غير أنني استمتعت بصور جديدة هنا........

    ألتفتُ ناحية النهر، أحدّق في ضفافه، أتوضأ بأمواجه، وقبل أن أودّع تنهداته تركت ظلال الطفولة وخفقة القلب وديعةً بين الماء والطين،.............. أكثر من رائعة.. أظنها كانت تصلح خاتمة لقصتك

    تقديري
    الناس أمواتٌ نيامٌ.. إذا ماتوا انتبهوا !!!

  9. #9
    الصورة الرمزية عبدالكريم الساعدي أديب
    تاريخ التسجيل : Apr 2015
    المشاركات : 247
    المواضيع : 48
    الردود : 247
    المعدل اليومي : 0.07

    افتراضي

    الأخت الفاضلة د. نجلاء طمان
    ممتن لكرم حضورك البهي، وجميل قراءتك... خالص التقدير

  10. #10
    شاعرة
    تاريخ التسجيل : Jan 2010
    الدولة : على أرض العروبة
    المشاركات : 34,923
    المواضيع : 293
    الردود : 34923
    المعدل اليومي : 6.71

    افتراضي

    لغة قويّة بتعابير شاعرية
    واحتدام شعوري حكته الصورة في تفاصيل المشهد بأسلوب جميل ومؤثر

    راق لي النص برغم بعض إسهاب أطال على المتلقي وإن لم يشب بغير ذلك مما يضير

    دمت بألق
    تحاياي
    تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. رسالة إلى حارس المعبر
    بواسطة الشاهد عبدالاله في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 14-06-2010, 04:22 PM
  2. رسالة إلى المعبر
    بواسطة عبد الكريم العسولي في المنتدى أَدَبُ العَامِيَّة العَرَبِيَّةِ
    مشاركات: 9
    آخر مشاركة: 24-02-2010, 08:13 PM