تَــوَلَّـــيْـــتِ قَــبْـــلِـــي ثَــلَاثِـــيـــنَ رَبًّــــــــا
وَأَلْـــــــــفَ نَــــبِـــــيٍّ وَأَلْــــفَـــــيْ وَلِــــــــــي
وَلَـكِـنَّـنِــي رَبُّـــــكِ الْـــحَـــقُّ وَحْــــــدِي
وَلِــــــي مَـــجْـــدُ مَــــــاضٍ وَمُـسْـتَـقْـبَــلِ
يهيم الشاعر في وديان التصوير والتخييل الشعري . وليس من شاعر إلا وتستهويه مغامرة الهيام في هذه الوديان. بل كلما أصرّ الشاعر على الأخذ بلباب قارئه كلما اضطّر لتطوير مهارته في مكاملة التشكيل الخيالي ليكون خالياً من الثغرات التصويرية . فالصور الشعرية الجزئية عنده تتكامل فينضم بعضها إلى بعضها ،ويتجاوب بعضها مع بعضها ،وهكذا تترابط التفاصيل فتتمدد لتتحوّل إلى مشهد متكامل في بنيته الفنية .
لكننا في قراءتنا النفسية لطبيعة العملية الإبداعية من خلال المثال الذي هو بين أيدينا، نقف على معاناة الشاعر وقلقه ، في اتخاذ قراره، بين التوجه باتجاه اكتمال التخييل واكتمال الفعل الإبداعي اكتمالا جمالياً وبنيويا، وبين احتمالية تجاوز الخطوط الحمراء المحظور تجاوزها في ثقافة الشاعر وقارئه معا.
وحريٌّ بمثل هذا التجاوز أن يضع الشاعر في حالة نفسية يتشبث فيها بمحاولة التأويل الإبداعي والتبرير الفني، لينجو أمام نفسه وأمام قارئه من تهمة الخوض في المحظور .
تَــوَلَّـــيْـــتِ قَــبْـــلِـــي ثَــلَاثِـــيـــنَ رَبًّــــــــا
وَأَلْـــــــــفَ نَــــبِـــــيٍّ وَأَلْــــفَـــــيْ وَلِــــــــــي
وَلَـكِـنَّـنِــي رَبُّـــــكِ الْـــحَـــقُّ وَحْــــــدِي
وَلِــــــي مَـــجْـــدُ مَــــــاضٍ وَمُـسْـتَـقْـبَــلِ
يخاطب الشاعر القصيدة . مفاخراً بكونه هو ربّها الحق وهي التي قد تولّاها قبله ثلاثون ربّاً- لماذا ثلاثون ؟ - وألف نبيّ وألفا وليّ . فيستخدم الشاعر ثلاث مفردات ذات اصطلاح ثقافي ديني تاريخي شائع ومعروف بترتيبها القداسي (ربّاً )ثم(نبيّا) ثم (وليا) .ويستهويه الاستغراق في استخدام خصائص التشبيهات المكوّنة للصور الشعرية، لتكوين المشهد الشعري الأوسع بالاعتماد على هذه الأركان الثلاثة التي حوّلت القصيدة إلى (أمّة ) عابدة . وعلى الرغم من إمكانية استخدام لفظة " الربّ" بمعنى ( ولي الأمر) في حال كونها مفردة مستقلّة ،إلا أن الحضور الديني للمفردتين الأخريين في الجوار وهما " النبي والولي " يجبر القارئ على الانزياح نفسياً وذهنياً باتجاه المعنى الديني لكلمة " الربّ" لتغليبه على المعنى اللغوي المعجمي الآخر. وذلك من مقتضيات إكمال النقص الصغير في اللوحة الكبيرة التي تحتويه . فترابط إيحاءات اللوحة وضرورة ترابط عناصرها ترابطا عضوياً أمر يفرضه الإحساس بوجود ثغرة فنية تنجم عن الاستغناء عن المعنى الديني لكلمة واحدة من ثلاث كلمات ذات نسق واحد في سياقها الذي قدّمها متقاربة و متوالية في ترتيبها القداسي وإيحاءاتها الدينية .
والشاعر يعتمد على الإيحاء الديني في هذه السياقية .وسيتابع الاعتماد على الإيحاء الديني في أربعة أبيات تالية .إلا أن تشبثه بوصف نفسه " ربّا للقصيدة " في ظل الإيحاء الديني بدا مرحلياً وعرضياً بعدما نقضه بلجوئه إلى تقمص خصائص "النبي" بقوله
وَأَنْـــــتِ الْـقَـصِـيــدَةُ أَتْـــلُـــو عَـلَـيْــهَــا
تَــرَاتِــيـــلَ مِــــــــنْ شَــــاعِــــرٍ مُــــرْسَــــلِ
ثم أكد هذه الخصائص في أبيات لاحقة .
أَخُــــطُّ مِــــنْ الــنُّــورِ أَلْــــوَاحَ وَحَــيِــي
وَغَــيْـــرِي يَــخُـــطُّ مِــــــنْ الـصَّـلْــصَــلِ
إن خطّ الألواح تناص مع مضمون الآية الكريمة {وكتبنا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ/﴿١٤٥﴾ ألأعراف.
الشاعر متردد بين تقمّص خصائص الربّ وفق الإيحاء الديني وخصائص النبي . فالشاعر يخطّ ألواح وحيه من النور ! فهل وحيه يوحي إليه بوصف متمثلاً لدور النبي في تلقي الوحي وكتابته ؟ أم أنه يخط وحيه من حيث أنه هو الموحي والوحي (النور ) رسالته التي يخطها على الألواح تناصاً مع جزئية الآية الكريمة السابقة ({وكتبنا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ) فهنا الكاتب في الألواح هو الموحي ربّ العالمين والمكتوب هو وحيه . والشاعر يخطّ من النور ألواح وحيه نفسها فمادة الألواح وما خُطَّ عليها هي النور . في حين أن غيره يخط ما يوحى إليه على ألواح من الصلصال فالألواح عند غيره مصنوعة من مادة الصلصال. وقد قابل الشاعر النور بالصلصال واضطر إلى حذف الألف من لفظة الصلصال لتتلاءم مع القافية ( الصلصل ). إلا أنه ابتعد بهذا الاستخدام عن المعنى اللغوي المعجمي للفظة الصلصل والتي تعني (ناصِيَة الفَرَسَ) .وهو معنى لا ينسجم مع سياق النص ولا يناسبه. و بسبب اعتراف الشاعر بوجود غيره ترك لنا في بيته دلالة لغوية تمكننا من الفصل بين هذين التفسيرين في نسبة الوحي إليه ( وحيي) .فهو يقرّ بوجود غيره الذي يخط من الصلصال،فهو يعترف بوجود الشريك المماثل في أصل فعل الخط والكتابة وبذلك يكون قد ردّ عن نفسه تهمة دور " الرب" الذي لا يقبل الشريك بالمعنى الديني في هذا البيت بعدما حام حول حمى المعنى وأوشك أن يقع فيه.
غير أنه سيقع في بيت آخر في المعنى المحظوراستجابة لمعطيات التشكيل الفني والمعنوي عندما يقول
فَــلَا تَكْـفُـرِي بِـــي وَلَا تُـشْـرِكِـي بِـــي
وَصَــــــلِّــــــي عَــــــلَــــــيَّ وَلَا تــــأْتَــــلِـــي
فإذا قبلنا أن قوليه (فَــلَا تَكْـفُـرِي بِـــي ) وقوله (وَصَــــــلِّــــــي عَــــــلَــــــيَّ ) وهما يشيران إلى خصائص النبي، فإننا لن نقبل قوله (وَلَا تُـشْـرِكِـي بِـــي) إلا بوصفه من خصائص الربّ وفق المعنى الديني . وبهذا القلق المعنوي وبهذا التردد بين تمثّل خصائص الربّ وخصائص النبي، يوجهنا الشاعر لنقرأ الحالة النفسية، التي وصل إليها في ضوء لجاجه في الفخر بشعره،إلى درجة جعلته يقوم يتردد بتوجيه بوصلة المعنى باتجاهات متعددة ،الهدف منها بالدرجة الأولى إكمال المبنى الفني وإشادة الفعل الإبداعي التخييلي في أدق تفاصيله الفنية بالاستفادة ما أمكن من معطيات التشبيهات الجزئية المكونة للصور الشعرية .
إن هذه المنزلقات المعنوية الخطيرة التي تورّط شاعرنا بالانجرار إليها، تحت ضغوط نفسية تعرّض لها أثناء ممارسة الفعل الإبداعي، قد انزلق فيها الكثير من الشعراء المشهود لهم بالتميَز والتفوّق الإبداعي، من أمثال أدونيس ونزار قباني وغيرهما . إلا أن هؤلاء الشعراء قد انساقوا في تيار الاستسلام للفعل التخييلي المبهر في فنية صورته الشعرية، على حساب الحذر والاحتياط مما يجاوز الخطوط الحمراء وما يليها من المحظور المعنوي، حتى أصبح انزلاقهم ظاهرة شعرية واضحة طالتها أقلام النقاد بالدراسة والتحليل .غير أنها عند شاعرنا لا تتعدى كونها عرَضاً جانبياً طارئاً ، نجم عن الإفراط في حالة نفسية غير مأمونة هي حالة اللجاج في الفخر بشعره.