تعطينا ونعطيك
أيّتها المعطاءة التي تجود علينا بكلّ ما نطلب ونريد... فنطمع ونصرخ : هل من مزيد؟! ... تلبّين الطّلب ولا تتضايقين ... نتلقّف ما تعطين، ونلتهمه ، ونمضي مهرولين بأفكارنا صوب مخطّط لكسب جديد ... ناسين أن نحني هاماتنا لك يا سيّدة العطاء، التي لا تأبه لجشع الجشعين ، وحسد الحاسدين، وزهد الزّاهدين ...
عطاؤك وجود، ووجودك عطاء لكلّ ما رغبَ راغبٌ وشاء ، واستمرارٌ تخبرينا من خلاله – ربّما راضية أو هازئة - أنّك لا تحتاجين الثّناء ...
تعطينا الحياة حين تفجرين ضرعك؛ مغدقا علينا حليب الوجود ، دون أن تفكّري في الفطام ... يتدفّق مدرارا، ونغترف منه اغترافا ... وربّما دعانا طمعُنا أن نحجز دفقَه بالسّدود والعراقيل ... فلا تأبهين ... وتسيل مآقيك ماء ثجّاجا... يفرحنا، ولا نفطن بالاعتناء بالعيون المدرارة ...
تعطينا إذن الوقوف والدّوس بأقدامنا على أديمك، وأنت مدركة أنّ وجهك الجميل هذا يمتهن في سبيل خدمتنا ... ولكن ، ربّما كان عزاؤك معرفتك أنّ المادّة تدوس ذاتها .. فأنت الأصل الذي أوجد الفرع، وتستعدّين وترغبين في التّضحية من أجله ، وتسمحين له أن يخوض ويجوب في أرجائك كيفما شاء!... ولا تواجهين ...
تسهّلين علينا عمليّة اختراقك ؛ كي نرسي قواعد حجارتك التي جُدتِ بها علينا؛ لتأوينا وتحمينا من ويلات غيرك ...
تعطينا الجمال الذي تعدّدت صوره، ويعجز العقل والإدراك عن الإحصاء... ولولاه لأصبحت الدّنيا خواء، وما تغنّى وأبدع الشّعراء ، وما طرب حسّون وهام نشوان في الفضاء، ولا تراقصت الفراشات في تيهٍ وخُيَلاء ... والنّحلات أنّى لها أن تلثم أفواه أحلى الزّهرات، وترتشف من رحيقها ؛ لتحوّله إلى أطيب المذاقات ؟! ...
أمّا نحن...
نعطيك جثث موتانا؛ كي تحتفظي بها؛ لأنّا أعجز من أن نبقيها أمام ناظرينا ... تستقبلين ولا تتأوّهين ... ولكلّ ما دفنّا معها من هموم تحتضنين ...
نردّ لك ماءك العذب الصّافي ملوّنا بأصباغ الأذى ، وعَبِقا بروائح تزخم بها أنوف المدى، فيصيب الكونَ الزّكامُ ، حين تنتقل العدوى سائرة على غير هدى... فلا تشتكين، وبشحّ الموارد عقابا لا تفكّرين .
نعتدي على حياضك، فنقطع أشجارك، ونقطف أزهارك ، ونحرق فتنتك ، فلا تيأسين، ولأكاليل الجمال تبقين خير المزيّنين ، وتغدقين علينا من بهائك طيلة السّنين ...
نمتصّ رحيق خيراتك ونعتصرها ، ونقذف في وجهك ما تبقّى من فتات يتحوّل إلى قاذورات ... فلا ترفضين وتمتصّين ما ساح من وخم وزخم...ولا تلطمين ...
نردّ لك الخيراتِ عوراتٍ ، ونغفل عن مدح حُسن صنيعك.. فلا تطالبين . لكنّنا، نخشى صمت المحسنين إذا أصبحنا يوما في نظرهم مقصّرين ... نخشى أن تباغتينا بعقاب ينسينا كلّ خيراتك ؛ فتهتزّين وتهزّين معك كلّ عطاء وزينة ، فنخسره... وتخسرينا ...
لكن، تظلّ بارقة أمل نأمن فيها غضبك، بعد حسن برّك، حين ترطّب ثراكِ دماءُ أترابك من شهدائك الذين أكرموك، وقدّسوك كلّ التّقديس .. فقدّموا لك خمرة أجسادهم في كؤوس الفداء ... بكَرعِها تنتشين، وبشذي قدسيّتها تتعطّرين ؛ لتبقي راضية ... ولنا حاضنة وراعية ... وبنا راغبة وآمنة ...
فأنت الرّحم وأنت الولادة وأنت الكرامة وأنت الحيااااااااااااااة ...