" border="0" align="right">
صحا من نومه مبكرا وقد وطد العزم على السفر إلى المدينة لسحب الجائزة الكبرى التي كانت من نصيبه.. الصبيحة بالنسبة إليه لم تكن كغيرها مما مضى من الصباحات.بين الفينة والاخرى،وبحركة لا شعورية،كان يلقي بنظرة فاحصة على ورقة اليناصيب المدرجة بين أوراق محفظة جيبه التي كان قد نسيها ولم يعرها أدنى اهتمام منذ ان اجبر على اقتنائها من احد مكاتب الجماعة القروية عندما كان بصدد إعداد وثائق خاصة..
يقلبها بين أنامله المرتعشة ظهرا عن بطن: مرة.. مرتين.. ثلاثا.. لا يدري هو بذاته كم مرة عمد إلى ذلك.واضح جدا انه كان يروم من خلال ذلك إلى التأكد من أنها لا تزال ملك يديه.. حتى الساعة لم يصدق ما حدث..يبدو أن الشكوك لا تزال تساوره فيما إذا كان قد فاز ام لا..."علال".. الفلاح البسيط المتعقل..فيما مضى كان يرى أن الحظ والنصيب ليس سوى محض صدفة لا غير..كان لا يفتأ يردد بملء فيه في مجالس شباب أهل البلد بأن لا خير فيمن لا يأكل مما كسبت يداه ومن عرق جبينه..على محياه كانت ترتسم ابتسامة هازئة ويلوح من عينيه بريق نظرة حانقة استصغارا لحال وشأن أولئك السذج "المساكين" الذين يعبثون بمالهم ويبددون بعض او كل ما يكسبون منه لقوت يومهم في تلك المغامرات الصبيانية واللعب القذرة التي لا يجنون من ورائها إلا الخسارة وشماتة الناس...
اليوم،وبالرغم من إرادته،اصبح شخصا آخر غير الذي كانه بالامس..وربما كان حتما عليه أن يكون كذلك..ولذا،فقد أحال كل ما كان راسخا ببؤرة اعتقاده من هذا القبيل على سراديب التجاهل والنسيان..
امتلأ وجهه حبورا وانضخت دماء جديدة في عروقه منذ اللحظة الاولى التي زف فيها إليه الخبر.لا يزال يذكر وقع المفاجأة عليه وعلى عياله..كاد على إثر ذلك أن يغمى عليه ابتهاجا بالبشرى السعيدة لولا أن تمالك نفسه وسيطر على ذاته بكل ما اوتي من تماسك وصمود...
أما زوجته "رحمة"،فقد غمر البشر كيانها لتنطلق من فيها مقدمة زغردة رقيقة ومدوية،سارع على التو إلى إبطال مفعولها بكفه ناهرا إياها:"اتقي الله يا امراة ! ماذا حدث ؟..."
تحلق حوله المهنئون بالحظ السعيد..حتى بعض اولئك الذين قاطعوه من صلب رحمه زمنا جاؤوا مباركين..استغرب من موقفهم هذا إلى درجة تبادر إلى يقينه أنهم إنما عمدوا إلى ذلك لحاجة طي أنفسهم...
استحثه الاقرباء على الإسراع إلى سحب جائزته المالية قبل أن تضيع منه الفرصة..الفرصة التي لا تعوض.. فرصة العمر التي قلما يجود بها الزمان مرة أخرى على أحد..وقد لا يجود...
قبل السفر،كان لابد من ان يلقي بتحية الصباح على والده الشيخ الممدد في ركن من أركان البيت يغالبه الانين تحت وطأة المرض الذي ينخر عظامه..على مقربة منه،أدخل كفه بين يديه ممسدا إياها ثم قال مطمئنا إياه :
- لا تقلق يا أبي ! قريبا إن شاء الله ستجرى لك العملية في أكبر مصحة بالمدينة..
هز الشيخ الفاني رأسه بصعوبة بالغة ثم رد بنبرة فيها وجع وانكسار:
- غفر الله لك يا بني;الشفاء من الله وحده..لا تحزن يا ولدي على ما فات ولا تفرح بما هوآت..كل الأشياء والذوات إلى زوال...
استساغ النصيحة ولاحت على وجهه ابتسامة الرضى..انحنى كالطفل على الجسد المحموم وطبع قبلة وديعة على الجبين الملتهب...
استقل سيارة "البيكوب"..تعلقت بتلابيبه"زهرة"،ابنته الصغرى..انتابه إحساس غريب وهي تنظر إليه وتتأمله طويلا كما لوانها تقابله بعد طول غياب..ابتسمت له ابتسامة عريضة لم يعهدها من قبل،إلا أنه لم يكثرت لكل ذلك وعدّ الامر طبيعيا في مثل هذه المواقف..جذبها إليه وضمها إلى صدره بقوة ثم قبلها واعدا إياها بأن يعود إليها محملا بالهدايا...من النافذة الزجاجية،أطلت عليه زوجته رحمة بعيون تحمل معنى فك شفرته على الفور: " اطمئني عزيزتي،وعودي لك لن تذهب هباء..!!"..ردت عليه بابتسامة غير معهودة..
الجو بارد رطب وقمم الجبال ملبدة بكتل الضباب الذي بدا يزحف شيئا فشيئا في اتجاه السفوح والأودية..الطريق جبلية تنحدر في مسارات والتواءات حلزونية...
انطلق في طريقه وعيناه تحدقان في الاتجاه الامامي بحذر،غيرأنه كان شارد الذهن،غارقا في متاهات افكاره،تتنازعه نوازع النفس اللوامة وتجتاح مخيلته بعض أحلامها المجنحة...
احتشدت التساؤلات في غور دخيلته : فيما ياترى سيصرف هذا الرصيد؟ أيسعى إلى استثماره في الارض التي ورثها عن أسلافه؟هل يستزيد من قطعان البهائم والماشية وينمي من موارده الفلاحية اكثر من ذي قبل؟..لكن كيف ذلك وهذه الارض لم تعد معطاء بعد أن تعاقبت عليها سنوات عجاف وأصبحت الرياح تعبث بالفراغ في كل شبر من أرجائها؟ أليس من السهل عليه أن يضرب صفحا عنها في اتجاه المدينة بحثا عن أعمال تجارية حرة تدر عليه مزيدا من المال؟...
في حيرة غير معهودة،تضاربت الآراء في تجاويف جمجمته،غير انه خلص في النهاية إلى ان الاجدر به اولا تسديد ما عليه من ديون ومعالجة والده المريض والاحتفاظ بالباقي في احد المصارف ريثما يتدبر أمره ويرى لذلك مخرجا...
في لحظة من اللحظات،كان من الصعب عليه أن يدرك لم تراءى له طيف والدته العابر..لا يدري كيف حصل ذلك على حين غرة..انسابت دمعة حارقة على وجنتيه تحسرا..تمنى لوتعود إلى الحياة لتشاركه فرحته وليحقق لها ولو بعض ما كان يراودها من أحلام قديمة...
معالم المدينة بدأت تلوح..استفاق من شروده وتنبه فجأة إلى انه كان قد أطلق العنان لسيارته التي كانت تسير بسرعة غير عادية في مسار منحدر.حاول ضبط الموقف بالتخفيف من اندفاعها المارق عند منعطف خطير،لكنه،وفي غمرة ارتباكه،انفلت منه زمام القيادة ليضغط بقوة على دواسة الفرامل..انزاحت السيارة عن الوضع الصائب..وفي ثوان معدودات،تهاوت متدحرجة كجلمود صخر أسفل الجبل الشامخ...
ارتطمت بالأرض واندلعت فيها النيران وحاصرها اللهب الأحمر من كل جانب..على إثر ذلك دوى انفجار هائل مرعب وتردد صداه في قعر الوادي...
كان الضباب الكثيف قد غشّى الوادي وعم كل انحائه..امتزج بياضه الناصع بالسواد القاتم للدخان المتصاعد في الفراغ كما لو ان القدر قد اسدل على المكان ستارا سميكا ليحجب عن الانظار فظاعة الموت الرهيب.....