عن قصيدة «القبو الزجاجي» للدكتور صابر عبد الدايم
بقلم: أ.د. حسين علي محمد
............................
(1)
عندما أسمعني صديقي الشاعر الكبير الدكتور صابر عبد الدايم قصيدته «القبو الزجاجي» طلبتُ منه أن ينشرها في كتاب مستقل، كقصيدة مفردة، لها عالمها المتميز، الذي يُتيح لها أن تأخذ دورها في حياتنا الأدبية، وها هو قد فعل.
وهي من أمهات قصائد الشاعر، وتحمل خصائص شعره الموضوعية التي قدمتها دواوينه الأخرى «المسافر في سنبلات الزمن»، و«الحلم والسفر والتحول»، و«مدائن الفجر»، و«العاشق والنهر» .. وغيرها من تصوير لماضينا، وتوق لأن يتواصل عالمنا المُعاصر معه، فنتخفف من الرؤى المفزعة التي تُحاصرنا، ومن إحباطاتنا المروعة وهزائمنا المتكررة التي تسد الأفق علينا.
وتحمل القصيدة خصائص شعره الفنية، من الألفاظ المجنحة، التي ترسم صوراً للأبطال التي أضاءت تاريخنا بمواقفها وبطولاتها، وذكر للأماكن الإسلامية التي تحن إليها القلوب والأفئدة، أو ترتبط بانتصارات الإسلام ومجده.
ثم قبل ذلك وبعده التأثر بالبيان القرآني، كأوضح ما يكون التأثر.
(2)
لقد زار الشاعر مدينة استامبول وأفزعه ما رأى من تشويه الوجه الإسلامي لعاصمة الخلافة الإسلامية على امتداد خمسة قرون، فكتب يُخاطب البطل الإسلامي محمد الفاتح:
كل أشجار الفتوحات أراها
عاريات من رؤاها
من ثمار المجد ..
في أوراقها جفت دماء
كنت تسقيها شذاها
أيها الفاتح أقبل .. أنت ما زلت فتاها
انزع السيف من الغمدِ
فقد تهنا وتاها !!
واستدعى الشاعر الفاروق عمر بن الخطاب، والقائد خالد بن الوليد ـ رضي الله عنهما ـ واستحضر نصا لشوقي، وحاوره، وصوّر بعض الحاضر المحبط:
رحلت ذاكرتي في مدن الشعر ……
وأصغت لأمير الشعراء …
في شرود وعياءْ
"الله أكبر كم في الفتح من عجب
يا خالد الترك جدد خالد العرب"
أي فتح .. يا أمير الشعر في عصر الفتوحات العقيمة ؟
أي فتح ؟ خالد الترك .. أتاتورك ..
.. لقد ألقى بماء النار في وجه الخلافة !!!
شوه الوجه السماوي الجميل
جعل البسفور ملهى ..
والعرايا .. فيه يسبحن ويعبرن مضيق الدردنيل !!!
سفن الفتح …
ويا للفتح أحالوها مواخير السكارى العابثين
والمحاريب
فضاءات نحيب .. حوّمت فيها طيور من عويل
ينعق البوم بأحشاء الثريات المطفأة
آه قد كانت لآلاف المصلين منارات …
وللمقرور كانت مدفأة
وهى الآن بقايا من قناديل الفتوح المرجأة ..
...
جئت والقلب بأبواب الفتوحات معلق
جئت .. لكن
باب "إسلامبول" في وجهي مغلق !!!
صدني عن بابك العالي
انكشاري بلا أي هوية
لكن روح الشاعر المسلم وإن أثقلها العالم الجهم بهزائمه المروعة نراها آملةً، تعلم «أن بعد العسر يسراً»، وترى بمددٍ من الله وأملٍ فيه إمكان العودة إلى الصّدارة، إذا كنا أحفاداً حقيقيين لأبطال العرب والإسلام الذين صنعوا البطولات جيلاً وراء جيل.
ومن ثم يُخاطب محمداً الفاتح:
أيها الفاتح إني طالع من هؤلاء
إنهم من شجر النار يجيئون ومن شمس الهدى والكبرياء
إنهم ضوء التجلي
… والخيول العاديات الموريات ..
إن أتى الطوفان واجتاح النهارات وإيقاع البقاء
إنهم أحفادك الغر الميامين ..
يقودون سباق الشهداء
أيها الفاتح إني .. جمرة من هؤلاء ..
(3)
جاءت قصيدة «القبو الزجاجي» من «بحر الرمل»، وقد أتاحت له التفعيلة أن يمد نفس الجملة الشعرية قصراً وطولاً للتعبير عما يُريد الشاعر، كما أتاحت التقفية التي التزم بها الشاعر في بعض الأسطر الشعرية ـ أ تمنح قصيدته موسيقا عذبة، لا تنفصل فيها الجملة الشعرية عن العاطفة المُثقلة بالحنين والتوق إلى استرجاع الزمن الماضي، مع ما يُعانيه من حزن وانفعال لما يُحيط به من مثبطات ومُجهضات!
وقد منح النداءُ والاستفهامُ ـ اللذان يُشعان في بنية القصيدة ـ هذا النص فيضاً من الحيوية المُترعة بالجمال، التي تنطلق بامتداد النص مدا وجزرا!
(4)
إن هذه القصيدة رائعة من روائع الأدب الحديث، سيذكرها تاريخ الأدب كما ذكر روائع الإبداع الشعري الحديث، من «همزية» شوقي، إلى «عمرية» حافظ إبراهيم، إلى «ترجمة شيطان» لعباس محمود العقاد، و«رسالة من أب مصري إلى الرئيس ترومان» لعبد الرحمن الشرقاوي، و«السلام الذي أعرف» لمحمود حسن إسماعيل، و«وردة من دم المتنبي» لعبد الله البردوني ... وغيرها من القصائد الشامخة.