بعد مناورات وأخذ وعطاء اقتنعت أخيرا لأضع حدا لحياة التبعثر والفوضى التي مافكرت يوما في كيفية الخروج من شرنقتها الضيقة , ورؤية العالم الخارجي المحيط بي ..
فالوقائع تسارعت برتم غبي وأحداث تفوح منها الدهشة كأي مراسم تقليدية في مجتمعنا , أبي
برغم حبه الشديد لي وتعلقه الذي لايعترف بحد وافق دون تفكير , وكذلك أمي هللت وانفرجت أساريرها , وماأظن أني قد رأيتها بهذا الفرح والابتهاج إلا مرة أو مرتن على امتداد أيامي الصاخبة .
حملت شهادة الزوجة الثالثة لرجل متزن الطباع وهاديء الملامح , الوقار يحيط به, والرجاحة والكياسة ملازمتان له .
لاعيب فيه يذكر غير زواجه باثنتين , لايوجد فارق زمني كبير بين فترة زواجه الأول والثاني .. على حسب تعليقات مامتي فهو يريد حفظ اسم عائلته لأنه وحيد والديه , ويريد أن يكاثر ويباهي بأعداد خلفته .
الأولى صامت عن الإنجاب امرأة وقورة لها مكانة في قلبي , أراها أختي الكبرى وباركت زواجنا على الفور ..
والثانية وقعت في مأزق شائك سنويا إلا وهي والدة أو مرضعة حتى تبدلت معالمها المشرقة من فرط اكتوائها بنيران المسؤولية .
أما أنا فأحمل رقم ثلاثة على النقيض تماما من الزوجتين السابقتين , مبعثرة وفوضوية إلى درجة لاتطاق مايشفع لي دائما أمام المجتمع أني أعمل في مشغل نسائي , لدي براعة فائقة في نسج واختراع الموديلات , أذهب لتزجية الوقت وماكان المال هدفي ذات يوم , هذا مالدي فقط , وماسواه فلايوجد , فدائما ماتضعني أمي في خانة الصفر !!
عمل لي أبي فرحا مميزا لم يحصل لأي فتاة واصل مراسيمه لمدة ثلاثة أيام متواصلة فأنا مدللته وأثيرته .. بينما حالي في قرف ونكد مما يجري لي .
أتساءل ماسبب موافقته المباغتة وعلى الفور, رغم تحفظه وعدم رده على أي رجل سابق إلا بعد مرور فترة تصيب الطرف الآخر بالدوار من فرط الانتظار .. ربما وافق على تزويجي من متزوج حينما أدرك السنوات التي تلهث مسرعة , متلاشية كظل ينتهي بسرعة , أو لرؤيته بأني أعيش داخل حيطان ملونة أعبث دائما بتلوينها لأحولها لقطعة جميلة , لاأجيد سوى الكتابة على الورق , الجدران , المرآة ,ورسم الموديلا ت , ودائما مايتم ضبطي متلبسة وأنا أخطط للشروع في توثيق حادثة مباغتة طفح بها تفكيري , ولايتم التوثيق عادة إلا على جدار أوعلى المرآة الكبيرة عند مدخل بيتنا .. ماسوى هذا الجنون لا أتقنه ولم أحاول مطلقا الدخول في أي تفاصيل مرهقة .
بدوت كالتي خرجت للتو من قشرة بيضة لاتدري ماذا يدور حولها ؟
بعثرتي أنستني الزمن , وأوقفتني عند مكان ووقت ودقائق لاتتحرك , حتى ساعتي البيلوجية وظفتها حسب مزاجي ..
عند مدخل متسع تحيط بجنباته أشجار البرتقال والمانجا وشجيرات أخرى عتيقة وكبيرة أجد الطريق إلى مكاني الجديد وهو بين عدة منازل وفلل واقعة في ذاك الحي الهادي .
داخل بيتنا بدأنا في حديثنا الأول , القلق والتوتر يعصفان بي إزاء وضع لم أتبرمج عليه بتاتا أو أكون مسؤولة عن شخص يشاركني حتى أنفاسي , وماألبث أن أتنفس بعمق وارتياح حينما أتذكر زوجتيه السابقتين اللتين سوف تشاركاني فيه .
أراد هو تلطيف الجو فبادرني بقوله إنني لم أقدم على الاقتران بكِ إلا لحبي لأدبك وسمو روحك , أنا أعرفك من زمان , بسبب قرابتنا .. وكما تعرفين لدي العديد من المشاغل والالتزاما ت يتحتم عليّ عقد الكثير من الصداقات مع أشخاص عديدين .. وأريدك أن تكوني المعينة والمهيئة لي الأجواء كي أوطد علاقتي بهم من خلال استضافتهم والعمل على إكرامهم .
أومأت له بالقبول والإيجاب بينما ظلت عبارته الأخيرة بمثابة السحر ( وضيافتهم ) كيف يعني هذا ؟ لاأريد إحداث فاجعة له منذ الليلة الأولى ..
من جديد تمتمت بكلمات غير مفهومة , وصرخت الأفكار برأسي واستنجدت بأقرب شيء قابلها في طريقها.
مرّت أيامنا الأولى كلمح البصر الولائم تتوالى , وأيام السفر في طريقها, وأمي الغبطة تكاد تخنقها وابنتها لقيت واحد رضي بها .
مايحيرني ظل ماثلا أمامي كلمته ( وضيافتهم ) تكد تشق طريقها بين الازدحام الذي يملأني لتخرج إلى الخارج !!!
هل أعترف له بخيبيتي التي لاتعلم بها إلا أمي ؟
أم أكون أكثر جراءة واعتراف .. وأبوح له بكل شيء .. فحياتي أصبحت بين قبضته وأيام الرفاهية تركتها وراء ظهري , هو بمقدورة مساعدتي !! لقد تزوجني عن اقتناع رضي بكل ماأملك .. ومن المؤسف أن يتركني أتورط لوحدي ..
في مساء بارد جلست قبالته وهو يقلب أوراق تخصه .. نظرت في قسماته , الوقت مهيئا لأنفث ماأريد ؟
أبو محمد أريد أن أخبرك بشيء ولاتحاول الغضب مني !!
ابتسم , وقال : هات مامعك .
اندفعت بكل جراءة .. كما ترى أيامنا تتقدم , وأيام العرس انتهت لارتطم بالمفاجآت التي تنتظرني , أنا فاشلة فشلا ذريعا في شؤون المطبخ , لذلك عليك بتدبر أمرك .
رفع وجهه فهميني ماذا يعني ؟
كما ترى ( مامتي ) يوميا ترسل لنا الأكل أمامك أومن وراءك وكل ماأقوم به هو تحضيره لاأكثر , لعلمها بأني لاأفقه شيئا .
أعاد النظر والتأمل في أوراقه .. أنا سأعلمك .
زاد من حدة توتري ؟
كيف تعلمني ؟ لايوجد عندي استعداد للتعلم .
نشأت في بيتنا ولم يحاول أحد أن يجرني إلى المطبخ ليجبرني على الممارسة, أو جعلني أمام الأمر الواقع لأفعل شيئا .
أنا سأعلمك لاتضخمي الأمور فوق حجمها الطبيعي , أنا طباخ محترف بشهادة زملائي وأصدقائي الذين اصطحبهم في أي مهمة سابقا أو حاليا .
تنهدت , وأخيرا جاء الفرج .. المهم رسالتي إليه وصلت .
جلست مع نفسي ماذا يمكنني أن أعد أو ماذا أعرف أن أصنع ؟ سؤالان عابران غرستهما بذاكرتي لعل بها شيء يتكاثر فيخرج بالإجابة . غير أني فتئت أن مامعي غير بيض مسلوق , سلطة مقطعة , أرز أبيض ناشف لاقبله ولابعده .
لم ألبث أن طردت فكرة الولوج إلى المطبخ غير غسل الأواني ـ إن سلمت طبعا من الكسر ــ والتنظيف .
بدا بتعليمي اليوم حعلمك التبولة وهي صنف يفخر به إخواننا الشوام مع أنها ماتحتاج لمفخرة أو فرد عضلات ..
كل مايهمنا حزمة بقدونس , مثلها جرجير , فص ثوم , ليموووووووون , و2 طماطم صاحية .. كلها مع بعضها .. صنف سهل جدا ومايحتاج لمهارة .
استسغت التبولة بسرعة .. فهي لاتحتاج لفرد عضلات كما أخبرني ..
في الغد سأعلمك السليق , وأتحدى مخلوق يعمله مثلي .. أنا طباخ محترف . ابتسمت ابتسامة غير واضحة , هل سيأكل فقط تبولة وسليق من يدي فقط!! ربما شكل النتيجة حتكون كذا .
توقف التعليم عند الصنفين بسبب مشاغله , جلست بمفردي هل تشفع لي أعمالي الأخرى عنده ..
أنا ماهرة في تنسيق الزهور ووضعها في أركان مناسبة جدا , مع الشموع الملونة والتي تتراقص ألسنتها فرحا وزهوا .أو اختياراتي للعطور التي تهبط عليّ مباشرة من أشهر بيوتها العالمية قبل عرضها في أي سوق .
كل هذا ماينفع , المعدة فقط من تسهل وصولي إلى قلبه , وأنا أعلنت فشلي في وصولي إليها .
أمي لم تحاول تحميلي المسؤولية وتعليمي , طباختنا الآسيوية ماهرة تعمل كل شيء بفن متقن , ابتداء من الكليجا والبرياني والعصيدة إلى المحاشي وصواني الفرن , حتى بمقدورها إدخال خروف كامل إلى الفرن بعد حشوه بالأرز والمكسرات ..
لكن أين هي مني الآن ؟
بعد أسبوع , الدرس الثاني كبسة , شوفي ياحلوة البهارات هي التي تصلِح خلطة أي صنف وتجعله شهيا ورق الغار , فلفل أسود , قرنفل , كمون ........ وتوابعها .. أولا علينا بسلق الدجاج أو اللحم , وفرم كمية لابأس بها من البصل ... ثم المواصلة .
ضقت ذرعا أنفاسي اضطربت , حسدته لاتساع نَفَسه .. ومهارته في الطبخ .
التفت إلي وقال :
مارأيك أتولى مسؤولية المطبخ بكل حيثياته لعام كامل , وأنتِ كم مدة تحددين ؟
ابتسمت بلؤم .. لديّ قسمة عادلة وهي أن أقوم بتقطيع كل مايقع تحت يدي خضار أو فتح علبة معلبات , وأنت تتفاهم مع الباقي ..
ضحك بشدة وقال رضيت بالقسمة .
سارت بقية الأيام على نفس الرتم , إما أن يقوم هو بالعمل الجليل داخل المطبخ , أو أتلقى الإمداد من أمي بإرسال المساعدات , وآخر الحلول طبعا المطعم الذي لايصد أي أحد خاصة من هن بنفس حالتي .
في أحد الأيام أردت مفاجأته , ورأيت من الضروري أن أتحدى نفسي , وكانت النتيجة خروج صنف لا أعلم تحت ماذا يُصنف , أحضرت قدرا ورميت كل ماطالته يدي .
استقبلته بفرح غامر . بعد نفث الروائح الشرقية في بيتنا الشمالي , وتوزيع الأزهار في كل جنباته ..
أبومحمد عملت لك مفاجأة , أنا طبخت اليوم , وأعددت لك طبقا لايوجد حتى في الخيال ..
ابتسم باتساع الدهشة ,وقال : تعرفين لدينا حمى الضنك , وفي الجو تلوح انفلونزا الطيور وأخاف بتجربتك القاتلة أن تنشئي لنا مرضا ثالثاااااااااا .
ريم / 2006