اصطياد الوهم
قصة قصيرة، بقلم: د. حسين علي محمد
........................................
هاهي النجمة «ليلى زهدي» ..
رآها «صبري عثمان» وهي قادمة إلى مقهى «هارون الرشيد» الذي اعتادا ارتياده معاً منذ عشر سنوات..
كان جالساً إلى مائدة وحيدة خارج المقهى.
الناس يمرُّون من أمامه باتجاه واحد!..
أقبلتْ من بعيد .. من الاتجاه الآخر.
سقط وجهه على صدره.
حين دخلت المقهى، وتجاوزته.. ومضتْ .. إلى مائدة أخرى، ترك كوب الشاي الذي لم يشرب منه.
نهض وأخذ يلملم أوراقاً، وذكرى غاضبة، وأعواماً تركتها وراءها..
جلس إلى مائدتها.
فتحت حقيبتها، وأخرجت رواية ضخمة.
.. لما رأته لم تبتسم:
قالت غاضبة، وهي تحاول أن تجعل نبرات صوتها كالمعتادة:
ـ إنني لا أصدق! .. هل هذا صبري عثمان الذي أعرفه؟ (وبلعت ريقها) .. هل هذا صبري ابن الثالثة والستين الذي دخل السجن في عهدي الملك فاروق وعبد الناصر .. وهاهو السادات أخذه ستة عشر شهراً في أحداث خبز يناير 1977م؟
ضحك .. وكأن ضحكته تقول لها:
ـ لكمْ أنتِ غريرة أيتها النجمة الجميلة!! ..
لم تلتفت إليه.
أضاف في خجل:
ـ لا تتعجبي! .. فقد كتبتُ مسرحية «صلاح الدين يدخل القدس» وأرسلتُها إلى صحيفة «الكفاح» اللبنانية التي نشرتها، عقب زيارة السادات التاريخية للقدس (قالها ضاحكاً) فطلبتْني الرئاسة بعد أسبوع!
قالت ساخرة:
ـ قرأتُها، حمداً لله أن النساء لم يظهرن فيها! وأن الرجال ـ وحدهم ـ هم الذين يتحمّلون وزر "البطولة" فيها!
شد كرسيا، وجلس في مواجهتها:
ـ لا تكوني قاسية في أحكامك.
تعرّف عليها منذ عشرة أعوام في صالون صديقه الناقد المسرحي محيي الدين فوزي، أعجبته ثقافتها الضخمة ـ بجانب جمالها اللافت ـ وكان إذا قرأ فصلاً من مخطوطاته المسرحية تُبدي إعجابها بكتاباته التي لم تأخذ حظها في العرض المسرحي والمُتابعة النقدية .. عدَّها من جمهوره.
وضحك:
ـ كتبتُ ثلاثين عاماً ضد الحكومات، فما التفت لي أحد إلا السجانون! .. وكتبتُ مسرحية تاريخية تشير إلى اللحظة التي نعيشها، فاستدعتني الرئاسة، للتشاور في تقديمها على المسرح القومي وطبعها في كتاب.
ضحكت:
ـ هذا هو الثمن؟
ـ أنا لم أمدح أحداً
ـ أنت تعرفني، لا أقول إلا ما أعتقده.
أضاف جادا:
ـ لقد استمتعتُ بكتابة كل فقرة من فقرات هذه المسرحية، وهذا يكفي.
ابتسمتْ ساخرةً .. ولم تُعقِّب.
أضاف:
ـ الناس سئمت الحروب، وتريد أن تستمتع بالحياة.
قالت ساخرة:
ـ وهل تصدِّق ـ أيها الكاتب الكريم ـ أن السلام الذليل مع إسرائيل سيأتينا بالمنَّ والسلوى كما يقول زعيمك؟
قال متراجعاً:
ـ خفِّضي صوتك، أريدُ أن أعيش، وأن تُعرض مسرحيتي في المسرح القومي!
قالت، وهي تحمل حقيبتها، وتُغادر المكان، وعلى وجهها علامات القرف :
ـ إن سلامك هذا ـ كمسرحيتك ـ أسوأ مسرحية مونودراما لممثل واحد، هو أنت!
أضاف لنفسه بصوتٍ عالٍ سمعه جيرانه في المقهى، بعد أن خرجت:
ـ وماذا يعنيني رأيها؟ إنها لم تذق ـ على أي حال ـ مرارة السجون! .. ثم إن المسرحية ستُقدم على مسرح الدولة بعد شهر ..
لقد كتب أكثر من عشر مسرحيات لم تُعرض مسرحية منها.
وعرفه الناس سجيناً أكثر مما عرفوه كاتب مسرح.
وهاهي مسرحيته التي كتبها عن «بطل تاريخي» بحث عن السلام من خلال الحرب، ستضعه في مصاف الكتاب الكبار.
هاهي ليلى زهدي تنضم إلى جوقة صديقه الناقد الكبير محيي الدين فوزي، الذي ازورّ عنه أمس، وهو يقول في لهجة حقيرة وشتائم رخيصة:
ـ لم أعجب لتقديم مسرحيتك على المسرح القومي، من إخراج المخرج الكبير سالم النقاش، فالسلطة تكافئ أحبابها!!
.. ماذا فعلتم أيها الأوغاد لي ولمسرحي المخطوط على امتداد خمسة وعشرين عاماً؟
وأنت أيها الناقد الكبير قرأت مسرحياتي ولم تكتب عنها كلمة واحدة، لأنها لم تُقدم للناس كما كنتَ تقول؟
...
انسحب إلى مائدته .. لا يود التفكير الآن؟ .. «ليلى» مزاجها غير رائق، وتتهمني بالخيانة! .. إنها تجعل المسرحية التي شارك فيها على الأقل عشرة أشخاص مسرحية ممثل واحد، وتقول في لغة باترة بصوت يشبه صوت سناء جميل، أو صوت عادل إمام في أدائهما المسرحي الفخيم:
« إنها أسوأ مسرحية مونودراما لممثل واحد!».
...
صفق «صبري عثمان» بشدة يطلبُ شاياً سادة، متوسلاً إلى النادل أن يُخفِّض صوتَ المذياع لأنه يريد أن يكتب الفصل الأول من مسرحيته الجديدة «لماذا يغضبون مني؟»..
داعبته فكرة شيطانية، فضحك:
ـ مسرحيتي الجديدة أبطالها نساء. تقوم حول صداقةٍ شيطانية بين مخرجةٍ سينمائية وامرأة أعمال. فهل يقدمها المسرح القومي (دون تدخل الرئاسة هذه المرة)؟، وهل تسنح الفرصة فتقوم ليلى زهدي ببطولتها؟!!
ديرب نجم 3/3/1983