إنّي أعتذر
رنّ جرس هاتفه النّقال، فانسابت موسيقى عذبة، تصلح لتحريك الجسد في رقصة (باليـه ) هي على الأرجح سيمفونيّة الفرح التاسعة (لبيتهوفن) ؛ فتلذّذ صاحب الهاتف ، وترك الموسيقى تدغدغ أرجاء مكتبه، ناشرة جوًا من البهجة و الحبور ، ثمّ تمطّى بخدر لذيذ و ردّ على محادثه بهدوء:
- نعم .. !
- حضرتك القاصّ ( س) ؟
- نعم .. تفضّل !
- هل ترغب في المشاركة في مسابقة أجمل قصّة شهيد ، التي تنظّمها مؤسستنا… ؟
- هذا من دواعي سروري !
الكاتب(س) ليس صيّاد جوائز ، فقد قال -على ذمّـته – إن هدفه المشاركة وفاء لدماء الشهداء؛ وإنّ قلمه السيّال سيدبّج قصّة تليق (بسيّد الشهداء ، عباس الموسوي ) تخلّد ذكره في القادمين إلى هذه الحياة .
لقد حُشر السيد(س) في الوقت ، و لكنّ هذا لا يهمّ فقد اعتاد أن يرخي لقـلمه العنان وأن يتركه في حلبة السّباق مع الأفكار ، و غالبًـا ما كان الفوز حليف أفكاره .
هيّـأ مكتبه بما يليق و طقوس الكتابة ، و أزاح عن الطاولة كلّ شيء ما عدا الأوراق البيضاء و قلم الحبر الأسود من النّوع الجديد سهل الانسياب . وطلب فنجان قهوة (نسكافيه) حسب الأصول واطمأنّ إلى وجود علبة التّبغ الأميركية الصنع ، وولاعته المفضّضة النّادرة ؛وجلس كما الكُـتّاب ، تاركا لكفّه الأيسر مهمّة إسناد وجنته اليسرى في حركة يزعم كاتبنا أنها تستدرّ الأفكار .
وغنيّ عن البيان أن صاحبنا يعرف كلّ شيء عن حياة الشهيد،وعن قصّة استشهاده، إذًا هو ليس بحاجة إلى كبير عناء لحبك القصّة فأحداثها مشهورة و متسلسلة منذ لحظة الولادة إلى لحظة الشّهادة .
ارتشف رشفة من قهوته،ومجّ شهيق لفافته حتّى ملأ زوايا رئتيه،فأضحتا كالبالون المنفوخ،و نفث مع الزفير ما علق بفكره من هموم، فصارت ذاكرته ورقة بيضاء بياض الصّـفحة أمامه.ثمّ ركّز خيوط الذاكرة حول الشخصية،و أمَر ذهنه بعدم الانشغال بغيرها،وقرّر أن ينفعل بالحدث،فاستحضر سيرة الشهيد من الألف إلى الياء،علّه يجد الخيط الأنسب لينطلق منه في الكتابة؛فأخفق في مسعاه .
أعاد المحاولة مرارًا فأعلنت الأفكار إضرابًـا عامًـا شلّ الحركة الفكرية لديه،و تململت الأوراق أمامه بعد أن لفّها الضّجر،و تملّص القلم من بين أصابعه،بعد أن جفّ الحبر على رأسه.
نفخ على رأس القلم بزفيره الحارّ،وراح يخربش على الورقة،فعادت الحياة إلى القلم،و رأى دوائر متشابكة تنداح أمامه على صفحة بيضاء،فقفزت إلى رأسه الفكرة الأساس لبناء القصّة :
حياة الشهيد سلسلة من الدوائر المتشابكة،تبدأ فاتحة اللون،ثم تزداد قتامة اللون فيها دائرة إثر دائرة،حتى ينفلت منها في الختام خطّ مستقيم،كالذي يظهر على الجهاز الطبّي أمام الطبيب الجرّاح معلنًـا وفاة المريض الخاضع للعملية الجراحية .
و من نافل القول أن كاتبنا فهِم أن العناية الإلهية تدخّلت لإنقاذه من ورطة الكتابة،وأن يدًا خفيّة أمسكت بيمناه وخطّت هذه الدوائر المتشابكة على ورقة بيضاء لتوحي إليه بالفكرة.
قال في سرّه : " الدائرة الأولى الفاتحة اللون تشبه لحظة الولادة،إذًا سأبدأ قصّـتي متحدثا عن ظروف ولادة الشهيد، وما رافقها من أحداث ." وكتب ما يلي : -
(( بداية الخمسينات من القرن العشرين ، كانت حبلى بإحداث شكّلت علامات فارقة في تاريخ العرب و المسلمين ، فالضباط الأحرار في مصر قاموا بالثورة ضدّ الملكية،و انبثق من بينهم عملاق أسمر طرد في خلال سنوات أربع الإنجليز من مصر،وأمّـم قناة السويس،و قاوم حلف بغداد و أنقذ الأمّة .. و عندنا في ( النبي شيت) كان عملاق أسمر آخر يولد ليلعب فيما بعد دورا نهضويًـا ،و ينقذ الأمّة على طريقته الخاصّة و….))
ترك الكاتب القلم،و ارتشف رشفة طويلة من قهوته،وأشعل لفافة ثانية،وهو يخاطب نفسه:
"سأَنقدُ نفسي، قبل أن يُشرّحني النُـقّاد ." راح يقرأ ما كتب،فأصيب بالامتعاض وقد أدرك أنه يكتب نصًا تاريخيا يسجّل فيه سيرة أحد الشهداء، ولا علاقة له بالقصّة الأدبية، فهصر الورقة في كفّه عاصرا ما فيها من أفكار قبل أن يدحرجها على الطاولة أمامه.
ثمّ أعاد ترتيب الطاولة وما عليها،وخفّ إلى آلة التسجيل، يبثّ منها موسيقى
( بيتهوفن) ، و قال لأعصابه :ارتخي.
ثمّ عبّ ما تبقّى من قهوته،و أشعل لفافة جديدة،بعد أن معس اللفافة السابقة بِنَزَق ، فلربّما كانت هي السبب في عجزه عن الكتابة ، ولاحظ و هو يمسك بالولاعة أن شُعلتها عالية اللهب فبادر إلى تخفيفها ، فقفزت إلى ذهنه فكرة جديدة،ظنّ أنها الأنسب لافتتاح القصّة :
(( الناس كشعلة الولاعة ، بعضهم يرتفع حتّى يغيّر في التاريخ، و بعضهم ينخفض فلا يكاد يُذكر إلا على شاهد قبره المنسيّ . و(سيّد الشهداء ) كان من الصنف الأول و…))
ومرّة ثانية تفحّص الكاتب ما كتب ، فوجد أنّه يغرق في الإنشاء و التقرير،و يبتعد عن التكثيف و الرمز، و الفكر و الدلالات البعيدة و اللغة المجنّحة.
و كسابقتها استقرّت ورقته المهصورة فوق الطاولة .
نادى زوجته بصوت غاضب، معترضا على طعم القهوة غير المستساغ، فأجابته بحدّة :
" و لكنّك لم تُيق منها شيئا ، إذا أردت أن تنفّس عن غضبك ففتّش عن غيري… "
خرجت الزوجة لتجديد القهوة ، و اختارتها عربيّة مُرَّة هذه المَرّة ، علّها تُسهم في رفد ذهن زوجها بالرؤى و الصور وعادت إليه تتهادى، فاستوحى من تجديد القهوة فكرة جديدة ، و كتب مايلي :
((هكذا هي الحياة ، تجدّد مستمرّ، فصول تتابع، حضارات تسود ، وأخرى تبيد، رجالات تُجدّد و تبتكر،وتترك على صخرة الحياة نقشا لا يُمحى،تقرأه الأجيال جيلا بعد جيل ، و رجال يمرّون في الحياة مرور الكائنات الحيّة ، و لا يتركون آثارهم إلا على الرّمال .
و السيد الشهيد صدق ما عاهد الله عليه ، فكانت أفعاله تسبق أقواله ، وصفاته تُنبئ عن ذاته، فشدّ الهمّة،و قاد الأمّة،و سابق رجاله إلى منازلة الأعداء. كان راهبًا في الليل ،و فارسًـا في النّهار، سار على خطى أجداده، ووقف وقفة عزّ في وجه الباطل في مشهد جهاديّ يتجدد.. ))
و مرّة ثالثة ترك (س) قلمه ، و هو يلهث، ودقّق في الورقة أمامه، ففوجئ بالكلمات تُخرج لسانها في وجهه ، فأعاد القراءة من جديد ، و أيقن أن أسلوبه يخلو من دفق العاطفة و من حرارة التفاعل ، و أنه تسجيل إخباري يشبه الكاميرا التي تنقل الحدث ببرودة ، و دون أدنى تدخّل في حبك التفاصيل، فأدرك أنه عاجز تماما عن مواصلة الكتابة.
ترك مقعده، و قام في المكتب يمشي ، في المساحة التي تركتها زوجه، دون أن تزرع فيها قطعة أثاث وثيرة ، أو نبتة خضراء، عاقدا كفّيه خلف ظهره- على عادة المبدعين- مُطرقا برأسه علّ الفكرة المناسبة تهطل عليه ، ثمّ توجّه إلى النافذة ، وأزاح الستارة بعنف ، و راح يتأمّل الشارع ، فإذا الدنيا بخير ، و الناس كخلية النحل ، كلّ يسير إلى وجهة محدّدة ، وهدف مرسوم ، يعرف من أين يبدأ ، و أين ينتهي، فقال لنفسه:
(( وحدي أقف عاجزا عن معرفة نقطة البداية.لماذا أقف هذا الموقف؟ أمن أجل الكتابة ؟ و لماذا أكتب ؟ و من سيقرأ ؟ و إن قرأ فما الذي تثيره القراءة في نفسه؟ وما قدرة الكلمة على التغيير؟
نعم! السيد الشهيد كان يركّز على الكلمة ، فيخطب في الجموع الهادرة ، يشحذ فيها الهِمم ، و يقوّي منها العزائم ؛ لكنّه كان يندفع أمامها في حلوق الأعداء، و يمتشق سلاحًـا فعليًـا ينطلق الرصاص منه،لا كما أمتشق أنا هذا القلم . عبثا أحاول إقناع نفسي بجدوى الحروف !!
نعم.. هي سلاح إذا ترافقت مع الفعل، أو تقدّمت عليه ، لكن إذا سبقها الفعل، تحوّلت إلى عجوز مُقعدة تروي الحكايات لأحفادها فيما يشبه التأريخ .
كيف أكتب عن رجل كتب قصـّته بدمه ؟ وأيّ حبر يعبّر عن حبر أحمر، تدفّق غزيرا من أوردة الشهيد ، و رسم على الأرض لوحة تشكيليّة عفويّة ، يقف الرسّامون أمامها عاجزين ؟
كانت الكلمة فيما مضى تُخلّد الحدث، أما اليوم (فالكاميرا ) تخلّده بشكل أجمل و أروع ؛ تخلّده حركة و لونا ، صورة و صوتـا ، فماذا عساي أقول في رجل لم يترك كلمات مكتوبة ، بل خلّف أفعالا محفورة في ذاكرة الزّمان ،و أرسى في الأرض سلوكا ، يقتدي به القادة ، في النضال و السهر على راحة الناس ، و تصريف شؤونهم ؟
ماذا أقول في رجل حدّد الهدف و سعى إليه ، عرف أن الدنيا مزرعة الآخرة ، فزرع العمل الصّالح ،ليجني الناس من بعده الأمن و العدل و السّلام .
ماذا عساي أكتب ؟!
لا..لا.. لن أكتب شيئا ، فالنص الذي سأكتبه سيظلّ قاصرا في إبداعه عن الإبداع الحقيقيّ الذي سطّره الشهيد بدمه.))
ترك الكاتب النافذة ، و عاد إلى هاتفه الجوّال ،و طلب رقم المؤسّسة التي عرضت عليه المشاركة في كتابة أجمل قصّة شهيد. وقال لمحدّثه باختصار : إني أعتذر.
ثمّ قطع المكالمة، و خرج من المكتب ماعسًـا علبة التبغ الأميركيّة ،تاركًـا موسيقى (بيتهوفن ) تصدح في الأرجاء.