أنا.. لا أشبه إلا.. أنا
طاولة كبيرة تتوسط قاعة، مزينة بألوان من الثريات، الأنوار تتقاذف عليها من كل صوب، ألوان تمتزج ببعضها وعلى الطاولة ألوان من ما تشتهيها النفس.. وفي إحدى أطراف الطاولة هناك .. تجلس دائماً .. وحدها لتنعم بتلك الولائم القدرية.. لم ينتابها يوماً شعور بالوحدة .. كانت تهضم ، وتتمتع بكل شئ ، وبكل ما أوتيت من متاع.. لم تكن تفوت فرصة تأتيها.. كانت في ذاتها .. مع نفسها تترنم دائماً بأغنية قدرية قديمة .. حفظتها من إحدى الألهات التي كانت مصلوبة على جدران معبد وثني قديم في أطراف مدينتها..( قدر ساقه الرب في أقداري ) ولطالما كانت ترددها.. مع الأطفال خارج أسوار قلعتها .. لكن لماذا تحس بالوحدة تقض عليها ثوانيها الآن…؟
هكذا تبادر السؤال من لا شعورها .. فكانت الشرارة الأولى… ليستفيق بعدها الآله الذي أصيب منذ أن كانت هي بغيبوبة أزلية في أعماقها .. وبدأت تسأل نفسها .. منذ أن رأيته بحزنه .. بموته..ببراءته.. بعزوفة عن كل شئ حتى عن الحديث، وأنا أعيش في دوامة لا تبدأ إلا بعينيه لتنتهي ، ولتنصب في عينيه .
من هو..؟ ماذا يكون..؟ لماذا أتى الآن ..؟ كيف لم أكن أشعر بوجوده قبل الآن ..؟ ما سر هذه الغرابة في طبائعه ..؟ وبماذا يختلف عن بني جنسه ..؟ بل عنه هو الذي كان ذات يوم يشاركني ابتسامتي وفرحتي وطاولتي الكبيرة هذه.. وألوني الزاهية أللامنتهية قبل أن يطعنني بخنجره المسموم ، ويهجرني إلى حيث اللاعودة .. قبل أن يزرع فيّ الخوف من كل ما هو..آت.. ويجعل من عقلي أن يتدرب أبداً على كل طارئ قد يحدث .
كنت قبل الآن .. وبعد هجره هو .. أشعر بأن الحياة.. واللاحياة سيان.. أبتسم أو أذرف الدمع .. أحزن أو لا أحزن.. أخرج أو لا أخرج.. أرى بشرياً أو لا… كل ذلك لم يكن بشئ يذكر في عرف أيامي.. فقد احترقت المرأة الأخرى التي كانت تسكنني وتجعلني أمتطي صهوة أيامي، وأركض لاهثة الى حيث الفرح.. وحيث يعيش هو .. تشوه وجهها الناعم الرقيق حتى أصبحت تخشى الظهور أمام عينيها حتى لا تصطدم بقسوة مظهرها ، وفجاعة آلامها …!
لكن لِم عادت برغم رمادها الأسود المنثور هنا وهناك.. تتحرك تحت أضلعي..؟ وكأنها استفاقت على شئ مجهول..! لماذا عادت للحياة..؟ بعد أن هجرتها لأعوام طويلة.. لماذا أصبحت تتردد على المرآة بين اللحظة والأخرى كأنها وجدت ظالتها؟
هل لأني رأيته بحزنه .. بموته.. ببراءته.. ؟ أيمكن أن تكون المرأة المحترقة في أعماقي قد أحست بنظراته الخائفة من كل شئ..؟ أيمكن أن أكون معها قد صدقناه…؟
لكنه يحمل ملامحه هو المجهولة وحتى طريقة حديثه وطول قامته، وأشياء كثيرة يتشابهان بها... ولا أعلم لا أنا ولا هي إن كان يحمل قناعه المزيف على وجهه أيضاً أم…؟
أتراه يخدعنا ..؟ أتراه يحمل وراء وجهه الحزين وكآبته العميقة المجروحة، وتمرده وجهاً آخر يهوى الأفتراس والدماء التي قد تروي مواطن قدميه ..؟ أتراه كذلك.. لا.. لا أظنه..؟ حتى المرأة الجاثمة في أعماقي لا تظن ذلك.. فهي الأخرى برغم نزف جرحها وأنين أيامها، وبشاعة وجهها المحترق من جراء علاقة حب.. مهزومة.. إلا أنها لا تظنه يفعلها مثلما فعلها هو الدنيء الذي كان يلهث فقط وراء المتعة.
أية أفكار هذه التي تنتابني..؟ لِم أنا وحيدة الآن على هذه الطاولة الكبيرة..؟ لِم لم أدعوه صاحب الوجه الحزين الزائر الجديد صاحب النظرات المفزوعة الخائفة الى جلستي هذه ليواسي وحدتي الفظيعة.. أي إله وثني أنت..؟ حتى جعلتني أخرج من تلك الدوامة القديمة التي غرست وتمكنت جذورها من أعماق أعماقي.. من أية مغارة خرجت أنت..لي..؟ وأية أودية هذه التي مررت بها حتى أثخنت جسدك بهذه الجراح..؟ لماذا أشعر بأني ما عشت قبل اليوم..؟ لماذا أشعر بأنه كان عليّ منذ البدء أن أعرفك أنت لا هو..؟ أهو القدر.. أم إنها أغنيتي العتيقة التي دائماً أرددها قدر ساقه الرب في أقداري..؟
هل أنت .. أم هو.. أم هي الأخرى الجاثمة في أعماقي من تجعلني أخشى وحدتي الآن..؟
أي شعور غض هذا الذي طرأ على سجل.. أحاسيسي ..؟ أي شئ أنت حتى جعلت من كل ماهو لا شئ ، شيئاً في كياني ؟
كنت أراه بعد هجره مجرد ريح مرت بدياري، وأخذت ما تشتهيها ، وماتت بعدما وضعت أحدى قدميها خارج أسواري.. كنت أحسبها هي الأخرى قد أعتكفت محراب اللاعودة ، حيث شعورها الدائم بالألم ، وأنين ذاتها، وصدمتها بالواقع المرّ.. وبكل ماهو رجالي.. كان كافياً بأن لا تخرج هي من مغارتها المظلمة برغم لدغات الأفاعي وحرقة لسعات العقارب…!
أما أنت.. فلم تكن، ولا أعلم كيف أصبحت…؟ وأنا.. التي هجرت الحياة، وأكتفيت بكل ما هو لا شئ في عالم مليء بالموت، بالزيف.. كنت أحب موتي البطيء وأنصهاري الجزئي البسيط.. فماذا حصل..؟
لأغرس منذ اللحظة رمح الموت في صدره هو..؟ وأمحو كل ذكراه من سجل أيامي، وأحرق كلماته.. وصوره، وأنتشل خياله من عالمي، وعقلي، ولتصيح هي الجاثمة ذات الوجه المشوه في أعماقي كفاني موتاً .. كفاني هرباً.. كفاني ظلمة.. فقد سئمت لدغات الأفاعي وسمومها، ولسعات العقارب وحرقتها.. وسئمت وحدتي في هذه المغارة… أريد أن أخرج .. أريد أن أراه هذا الزائر الحزين.. ولأجد أنا التي أعتكفت محراب الصمت، ولذت بالوحدة.. شعوراً غريباً يمتلكني ويدنيني منه، ويلح عليّ بالحاجة الى رؤية عيناه .. وسماع صوته الصامت.. وتأمل وجه الحزين، وضرورة غرس مقعده أمام عينيي على طاولتي.. الكبيرة.. لأضيف الى ألواني اللامنتهية أجمل وأبها لون…!
(لكن مهلاً سيدتي.. تأكدي بأني لست أقبل العيش بظل أي إنسان.. بل أرفض العيش بظل أي إله وثني مصلوب على جدران معابدك لأني أبداً.. لاأشبه إلى إلا نفسي ).
بغداد / 19-8-2000