الحصــــــــــــار
( الدائرة تضيق حوله.. العيون ترصده بنظرات ساخرة متحدية..
مكوم على الأرض هو بلا حراك.. حاول القيام .. شعر بألم في ساقه .. تراجع عن محاولته .. غزت رأسه دقات مزعجة )
لم يكن يظن أن الطريق بهذه الوعورة، ولكن لا مفر فقد سئم الغابات الأسمنتية والمستنشقات الملوثة الفاسدة واللهاث المستمر خلف أي شئ .. وكل شئ.. حتى صار سمة سائدة .. كل شئ يلهث ولا وقت لالتقاط الأنفاس ، وإن وجد فلا مكان هناك.. إلا مكان واحد به كل ما يرومه .. بيت جده .
لم يكن يذكر عنه سوى اليسير لكنه كان كافيا لاتخاذه هذا القرار الخطير .. الرحيل إلى ……...
لقد شاهد جده بضع مرات لكنه يذكر عن بيته الكثير ، يذكر رحابته ونقاء أجوائه .. يذكر حركة جده المتمهلة في كل شيء .. سيره .. جلوسه .. أكله .. كل شيء بهدوء
.. حتى زوار جده ما كان بينهم لاهث واحد .. كل شيء بأناة وهدوء .. على وجهه دائما ملامح هادئة مطمئنة وبشاشة .. على مقعد بعينه كلن يجلس دائما في استرخاء مغمضا عينيه في استمتاع وتلذذ منصتا للصوت المنبعث من الفونوغراف .. يرشف ببطء محبب من فنجان القهوة التركي .
( حاول أن يتمالك نفسه .. وقف .. نظروا إليه شذرا .. تعالت دقاتهم حوله .. اهتزت الأرض تحته , وسقط)
كان طريقه عبر دروب غير ممهدة ومسالك وعرة لم يسلكها أحد قبله ، إلا قليلون لم يعرف مآلهم أحد ، ولكن هذا لم ليثنيه عن عزمه، كان يعلم علم اليقين خطورة ما هو مقدم عليه .. لذا حرص أن يكون مسلحا .
في أول الأمر حاول الوصول عبر المدن والبلدان لكنه وجد نفسه يدور في حلقة مفرغة ، فالحصار مضروب حوله أينما اتجه .. غابات الأسمنت تحيط به من كل جانب .. تحيل الرؤية ضبابا .. الضجيج يهدر في أذنيه .. العدو ما زال مستمرا .. حركة الصدر تكاد تصبح زفيرا فقط .. دار في كل الاتجاهات .. لم يجد ثغرة ينفذ منها للخارج .. حاول أكثر من مرة ولكن دون جدوى .. نصحه أحد الساخرين بالسير للخلف إن أراد خلاصا .
( حاول الزحف على الأرض .. تقدم عدة أمتار مبتعدا عن المنتصف عله يعبرهم .. تحركت الدائرة حوله معيدة الوضع كما كان .. أيقن استحالة العبور )
عبر المشربية رأى السكينة تعم المكان ، كان صغيرا وقتها لكنه وعى ما رأى .. الصناع الفنانون يعملون بتؤدة .. الدعة والطمأنينة تعلوان الوجوه .. لا أحد يحمل هم اليوم .. ولا الغد .. الحركة دائبة ، والإيقاع هادئ .. صوت أحدهم يسري في الأثير منغما شجيا .. عطر فريد يسري معه .
عندما وجد ثغرة خرج من المدينة .. ظن أنه أفلت من الحصار إلى الأبد .. فقط عليه الآن المضي في الطريق الصحيح .. أيقن أن طريقه يبدأ من الخلاء .. أعطى الغابات اللعينة ظهره وسار صوب الهدف لأول مرة لا يهتم بحلول الظلام .. لا راحة الآن .. كل خطوة تدنيه من البيت .. لا حاجة للرؤية فقدماه تعرفان الطريق .. أنفه تشم ذلك العطر الفريد .. أسرع الخطى .. تعثرت قدمه وسقط .
عندما لفحته الشمس أفاق ليجد نفسه بينهم .. في شبه دائرة كانوا حوله .. ينظرون إليه بسخرية .. أعداد لا حصر لها .. دقاتهم رتيبة منتظمة .. في المنتصف اثنان كبيرا الحجم .. أحدهم أكبر قليلا .. العقارب الأخرى التي على الأطراف أصغر كثيرا .. عقربا المنتصف يقودان المجموعة فكلما أشار أحدهما إشارة علت الدقات وضاقت دائرة الحصار .. ما زال يشم رائحة البيت القديم .. يشعر بقربه ..
الدائرة تضيق تدريجيا .. لا حل وسط إما أن يفلت وينجو .. وإما الفناء .. أجسادهم تقترب منه .. تلمع في وهج الشمس ، إنها أجساد فولاذية . . لم يعد لديه خيار .. هو القتال إذن .. لو استطاع إجبار عقربي المنتصف على تغيير الإشارة لأفلت حيث يريد .. انتصب على قدميه مادا ساقيه قدر استطاعته .. تجمدت قسمات وجهه .. شد أوتار عنقه ورفع هامته .. مسح بعينيه قوس الرؤيا أمامه .. لوح بقبضته اليسرى في الهواء ، وباليمنى امتشق حسامه .. الخشبي .
[line]
جريدة عُمان 17 / 4 / 1995 (سلطنة عُمان )
جريدة القبس 4 / 4 / 2002 ( الكـــــويــــــت )