رسالة إلى السيدة الجميلة
(من عبد يغوث الحارثي إلى زوجته)
بقلم: د. حسين علي محمد
...........................
..........................
(1)
حبيبتي مُليْكة
هاأنذا مقروحُ الفؤادِ، أكتبُ لك هذه الرسالةَ وأنا أنزفُ دماً، وبيني وبينك مئاتٌ ومئاتٌ من الأميال، وما هي إلا لحظات قلائل حتى أكونَ أثراً بعدَ عيْنٍ!
لقدْ قدتُ قومي في المعركةِ الأخيرة ـ يوم الكُلابِ الثاني ـ وكانوا اثنيْ عشر ألفاً من فرسانِ اليمن ـ كما تعلمينَ ـ وخُضتُ بهم المعركةَ، كما سيحكي لك الفارون والمنهزمون من أبناء قومي، خضتُ بهم المعركةَ ضد بني تميمٍ في موضعٍ يُسمَّى «الكُلابَ»، واشتدت حدة القتال في أيام صيفٍ قائظةٍ حارقةٍ كان ينتعلُ فيها كلُّ شيءٍ ظلَّه، وقد قاتلنا قتالاً عنيفاً وكدنا أن ننتصر عليهم، وقُتل زعيمهم (النعمانُ بنُ جسّاس) قتله رجلٌ منا ـ من أهل اليمن ـ لا أعرفه، وقد أصابه بحربةٍ قاتلة وهو يقول: خُذها وأنا ابنُ الحنظلية! وكانت الشمسُ قد أوشكت على المغيب، وتعب الفرسان من الفريقين من كثرة الكر والفر، وظننا أن قتل النعمان سيهزم بني تميم، وسيبعثُ الخور في عزائمهم، ولكن لم يزدهم ذلك إلا جراءةً وإقدامًا.
اقتتلْنا حتى حجز الليلُ بيننا، فبتْنا يحرسُ بعضُنا بعضاً.
وقبل أن تُشرق الغزالةُ من خدرها انقضُّوا علينا، وأعملوا فينا الفتكَ، وهالني أن أجد قومي فارِّين مُدبرين، وقد كانوا جنا بالأمس، فغمغم الشعرُ في صدري:
جزى الله قومي بالكُلاب ملامـــة *** صريحهم والآخرين الموالـــــيا
ولو شئت نجَّتني من الخيــل نهـدة *** ترى خلفها الحُوَّ الجياد توالــــيا
ولكنني أحمي ذمار أبـــــيكم ***وكان الرماح يختطفن المحاميــــا
لقد تغيّرت ظروف المعركة في اليوم الثاني لصالح بني تميم، ولكنني أصررتُ على مواصلة القتال، وظللتُ أقاتلُ قتالاً بطوليا رافضاً الفرار من المعركة على الرغم من استطاعتي النجاة بنفسي. وأخذتُ أقاتلُ بكل قوة وأنا أرى التميميين يُحيطون بي من كل جانب إحاطة السوار بالمعصم. كان معي مجموعة من فرسان مذحج اليمانية، وسمعت قائد التميميين «قيس بن عاصم» يُنادي:
«يا آل تميم لا تقتلوا إلا فارساً، فإن الرجلة لكم»، وجعل يرتجز:
لما تولَّوْا عصُباً سواربـــا
أقسمْتُ لا أطعنُ إلا راكبـا
إني وجدتُ الطعنَ فيهمْ صائبا
ولكنَّ رجلاً أهوج ـ وسط المعمعة ـ استطاع أن يُصيب فرسي في مقتل فهويتُ على الأرض، ويا لهول المفاجأة!، أأنا عبد يغوث بن صلاءة الحارثي، الفارس كابراً عن كابرٍ أسقطُ أسيراً وأنا ربُّ الخيلِ؟!
وكنت إذا ما الخيل شمصـها القـنا *** لبيقاً بتصريف القناة بنانـــــيا
وعادية سوم الجراد وزعتــــها *** بكفي وقد أنحَوا إلىَّ العوالــــيا
كأني لم أركب جواداً ولم أقـــل *** لخيلي كري نفِّسي عن رجاليـــا
وأخذني الأهوج ـ بعد سكون غبار الموقعة ـ أسيراً مقيَّداً إلى داره، فوجدتُ داراً رحبةً مُقبضةً، لا يعيش فيها إلا هذا الأهوج وأمُّه العجوز، التي قالت في شماتةٍ لا تُخفيها أساريرُها:
ـ أراك فتى عظيماً جميلاً .. من أنت؟
ـ أنا سيد مذحج!.
فضحكت الشمطاء، وقالت في غلظة وجحود قلب:
ـ قبّحك الله من سيد قومٍ إذ أسرك هذا الأهوج!
فغمغم شيطان الشعر تحت لساني:
وتضحك مني شيخة عبشمـــيةٌ *** كأن لم ترنْ قبلي أسيراً يمانيـــا
ولكن العبشميةَ قالت في مودّةٍ زائفةٍ:
ـ ما اسمُك أيُّها الفتى الجميل؟
ـ اسمي عبد يغوث.
شجّعني حوارها على أن أتمالك نفسي، وأكظم غيظي، وأقولُ في شبه ضعف:
ـ أيتها الحرة! هل لكِ إلى خير؟
قالت:
ـ وما ذاك؟
قلت:
ـ أُعطي ابنك مائة من الإبل، وينطلق بي إلى الأهتم، فإني أتخوّف أن تنتزعني منه سعد والرباب.
ووافقت العجوز ووافق ابنها.
وانطلق بي الأهتم وأنا أناشده:
أأهتمُ يا خير البريةِ والــــداً*** ورهْطاً إذا ما الناسُ عدُّوا المساعيا
تدارك أسيـراً عاتياً في بلادكـمْ ***ولا تثقفنَّي التـيمَ ألقى الدواهيـا
ووعدني بالحماية، فأشرقت الأحلامُ الجميلة في خلدي، وأخذتُ أمنِّي نفسي بالرجوع إلى ربوع اليمن الخضراء.
ويا لحظي التعس!
فقد جاءت بعد قليل سعد والرباب إلى الأهتم حينما علمت أني عنده، وكنتُ أتناولُ بعض تمرات، فتوقفت في حلقي، وانتفض قلبي كالعصفور بلله القطر، وأنا أسمع زعيم الرباب (عصمةَ بنَ أُبيْر) يصرخُ في حدةٍ وفي شراسةٍ:
ـ قُتل فارسُنا وسيدنا (النعمانُ بنُ جسّاسٍ) ولم يُقتلْ لكمْ يا آلَ سعدٍ فارسٌ مذكورٌ في هذه الحربِ الضروسِ فادفعوهُ إليْنا!
وحاول الأهتم بكل حيلة وكل قول لين أن يستنقذني من أنيابهم، فلم يُفلح منطقُه الضعيف أمامَ صخورِ كلماتهم!
ويا لهول الصدمةِ!
ويا لسواد الأفق!
لقد وافق الأهتم، وأخذني عصمةُ بنُ أبيرٍ التميمي، وانطلق بي مُقَيَّداً إلى منزله!
***
في الليل جمعت تميم شعراءها وفرسانها لتفخر بأسري وقتْلي ـ الذي يُعدُّون له ـ وقالت شعراً في ذلك أحفظُهُ جميعاً، وأعرف من قالوه. ولكن هل أضع الملح فوق جراحك، وأضاعف من آلامك بإعادته على مسامعك؟
وفي الصباح كان الحزنُ يستبدُّ بي، والجوع يكاد يقتلني. وأقبلت الشيخة العبشمية مع بعض النسوة يُغازلنني ويُقدمن لي لقيمات، فأعرض عنهن.
ما أسوأ هذه اللحظات التي تكاد تفتك بي، وما هذه الأحجار التي تكاد تصرع رأسي؟: أعبديغوث بن صلاءة الفارس الشجاع يصير أسيراً مقيداً بالأغلال جائعاً؟!!
(يتبع)
***