حديـث صخـرة
أعاد إبراهيم تمثيل قصة السجود
لم يلحظ ما علق بلحيته من تراب، ولا كتلة طينٍ جبـَلتها مقلتاه
خلع عباءته و نفضها ثم راح يطويها كيفما اتفق.
دسها تحت مرفقٍ أسند رأسَه بعد أن اضطجع، وراحت سبابته اليسرى تعبث بطحالب سترت عورة الصخرة.
حركة قادته إلى دهاليز ذاكرة طولها نصف قرن……
هنا تماماً انبطحتُ قبالة أخي في الرضاع( إيغال)
وراح كلٌّ منا يحفر اسمه بمسمار ويجتهد في الإيغال.
أين يا إبراهيم؟ …أين؟
و نقّل بصره محدقا بسرعة عاضّا على إصبعه : أين يا إبراهيم…أين ؟
أيوه … !! هنا.
قرّب وجهه من الكلمة، وراح بالكاد يتهجّى حروفاً أجنبية عرّتها عوامل المناخ وشارفت على الاندثار: Egale "إيغال" 1920 وراح يتساءل :" لكن أين اسمي؟ … أين ؟ لقد نقـشته تماماً في هذه النقطة " وغرز إصبعه في الطحالب متأفّفاوهو يقول:" ملعونة هذه الطحالب "**
وراح يقرأ الاسم بوضوح ..(إبراهيم).
خرّ يلثم طفولته مقبّـلا الصخرة .. وعاد يتكئ مستحضراً حواراً دار مع أخيه في الرضاع بعد حفر الأسماء.
- لماذا تسمح يا إبراهيم للأستاذ أن ينعتك "بالجمل"؟
- أليس أفضل من أن يصفني "بالحمار" كباقي الطلبة، انه يميّزني، ثم إن احترامه واجب ***
- لكننا بشر من حقنا أن نُحترم ،أيشبّه الأعلى بمن هو أدنى، ذاك ينعته بالبغل، وأنا ينعتني بالثعلب، لقد طفح الكيل.
- إحمد ربك فالثعلب صفة تُخلع على الإنسان الذكي الماكر وأنت بلا حسد من الأوائل يا إيغال.
- وأنت يا إبراهيم أيضا من الثلاثين الأوائل ***.
(يومهاضحكنا ضحك طفلين معاً وعَدَونا فسبقته في الجري) ثم قلت:
- أرأيت جملاً يسبق الثعلب؟*
- نعم *** في حالة واحدة ** إذا نوى الثعلب أن يضحك و يهزأ من الجمـــل
(وضحكنا مرة ثانية)
- ماذا تخطط يا "إيغال لمستقبلك"
- أن أُصبح ضابطاً ***… وعدني "بابا" أن أدرس في الكلية الحربية في لندن وأنت؟*
- وأنا أيضاً وعدني "بابا" الحاج خليل أن أدرس ؛* ولكن على البيدر*!!*
(وضحكنا مرة ثالثة).
اسمع يا "إيغال" غداً إذا تطاول الأستاذ علي فسأتحول إلى جمل حقيقي "وأدوس" في بطنه **
- تجمـّل بالصبر يا إبراهيم وإلا ضاع مستقبلك ولا تنس أن الصبر شيمة الجِمال .وداعاً..**
منذ ذلك الحين وأنا أطرح على نفسي هذا السؤال: هل أنا جمل حقاً؟*
رقبتي طويلة *؟ نعم!* ولكن هذا لا يعني أن أصبح جملاً***
الأنني مشقوق الشفة السفلى كالجمال؟ أم لأنني ازاحم الجمال على أكل الشوك
الذي تدلّعه "أمي" "عكّــوب" أم لأنني أتجشأ كالبعير!!؟
لا أصدّق أنني جمل .لقد كنت ذكياً مولعاً بحفظ الأناشيد عن ظهـر قلب،
وكان أخي "إيغال" ينعتني دائماً "بالببغاء" ثم يضحك مُعلقاً:- -
افرح يا عم – صرت تحمل لقبين: ببغاء و جَمل .
ولكن عائلتي وأهل قريتي ينادونني "إبراهيم الجمل" ، إذن فعلاً أنا جمل!! حتى أنني صفعت
زوجي يوما فثارت ثائرتها قائلة : "يا ويلك من الله" (كفّـك مثل كفّ الجمل)
تمثَـل بأخيك "إيغال" كيف يلاطف رفيقة دربه ،تكاد تخنقها الهدايا والورود، رغم أنها كالقطة شعرها أصفر وعيونها زرقاء مثل البنانيــر ( الكــلل)."
- لا لن أشك في ذاتي، أنا لستُ جَملاً..**
لقد أنجبتُ دزينة من الرجال و رُحت أباهي بهم ؛ بعكس "إيغال" الذي لم يخلّف غير "نمّوصين" ولداً وبنتاً.
وعندما جعل يتشاوف عليّ بماله ورتبته العسكرية الرفيعة، دمغتُه بالمثل السائر
(بيت رجال ولا بيت مال)،،،، (والكثرة غلبت الشجاعة).
قهقه آنذاك قائلا: " تغيَّر المثلُ يا جَمل، وأصبح " بيت علم لا بيت مال" العلم ينتج المال ،
والمال يشتري السلاح والرجال، انظر آلاف المرتزقة الذين ينضمون إلى منظماتنا (شتيرن و هاغانا) مَا الذي أغراهم سوى المال ؟
وآلاف الكيلومترات المربعة من أراضي الميري الحكومية التي باعتنا إياها الدولة العثمانية وحكومة الانتداب البريطاني هل كنا سنحصل عليها لولا رنين الذهب؟ "
-نحن يا "إيغال" نملك الرجال والحقّ الناصع.
- رجال بلا سلاح غثاء كغثاء السيل، أما الحقّ الناصع فأنت تعلم أين تضعه؟! ***
البقاء للأقوى يا أخي إبراهيم !!
- دوام القوة لله ،واعلم بأن الجمل قد يُهان ولكنّه يظلّ يتحيّن الفرص حتى ينتقم ممّن أهانه.
ألم أكن جَملاً إذ صبرتُ على استفزازاته ولم أهشّم عظامه ؟ **
ألم تكن أمّي ناقةً عندما أرضَعتْه صغيراً، عطفا وجهالة؟ مقررة:
"حق الجيرة…. ولو كان يهوديا"
ذاك الحليب الذي لم يثمر فيه إلا الحقد والضغينة***
ولكن أليس الحقد أيضا من صفات الجمل؟ إذن هو أيضا جمل **
جدي إسماعيل وجده اسحق كانا أخوين. *** أبناء عمومة نحن إذن ***.
قبل النكبة بخمسة أعوام أرسل إليّ رسالة مفادها : " أرض الميعاد صارت قاب قوسين أو أدنى من أيدينا .. النصيحة بجمل.. إرحل مع الراحلين"
هززتُ رأسي استهزاءٌ وكدتُ أرسل إليه نص الرسالة عينه.
وكانت رسالتُه آخر عهدي به.
وقعت الواقعة و أبليتُ مع المجاهدين البلاء الحسن و لكننا هُزمنا فرضختُ لنصيحة إيغال .
فحين يُجابه الرصاص بالصدور العارية تنتصر إرادة الصدور ولكنها تُنخر،وعندما ينتصر الدم ،على السيف يُهرق ،وتصبح السلامة في الخروج ** .
هل كنت جَملاً يومها؟!
لا.. لا فلقد قاتلت حتى آخر رصاصة !!و انتظرت .. انتظرت طويلا .
قلت يومذاك : إخوتي امتداد روحي وبلسم جروحي
كل الروابط تجمعني بهم ، لا بدّ أن يهبّوا هبّة رجل واحد لنجدتي،و لكن..آخ .. آخ.
لم أكن جَملاً أبداً إذ رعيت الجمال في بادية الأردن وأخلصتُ في الرعي، ويوم الجزاء تلـقّيت صفعة شكر من أخٍ فضّـلتُه على ابن العم.
وفي 1 – 11 - 1970 تسلّمت بواسطة الصليب الأحمر هذه الرسالة::--
جَمَـلي العزيــز:-
علمت بمكان وجودك عن طريق الصليب الأحمر..
إذا كن ترغب في العودة إلى الناصرة فالأمر يسيــر… تصريح الدخول مرفق طيــاً
لا تقلق السكن ومعاش الشيخوخة بانتظارك
أخوك في الحليب
إيغال
تل أبيب في *1/12/1970
لم يطل بي التفكير
تحسّست صفعة الشقيق .. وعدت كي ألثم تراب الوطن .
و ها هي القصة حتى الآن ياصخرتي الغالية.