كان مستلقٍ على الأرض الرملية ، مستقيم الظهر ، نائماً على وسادته ، على شقه الأيمن ، يتطلع بين الحين والآخر إلى أضواء القناديل المتراصة على جانبى الطريق .
مرت عليه آلاف من الوجوه ... من ينظر إليه نظرة عطف ... ومن يدهسه بقدمه ... ومن يقذف فى وجهه بالحجارة والقاذورات ، ويلعنه ويلعن والديه .
تنفس الرجل الصعداء ... هب واقفاً ، ناصباً قامته ... هم أن يحدث نفسه ، ويفضى لذاته ذكرياته ... عندئذ مرت أمامه امرأة عجوز شمطاء ... لم يلتفت إليها ... سار فى طريقه يفكر عما سيفعله هذه الليلة ... أيذهب لينام ويخلد فى نومه ويستريح ... أيذهب للمسجد ليصلى ركعتين .
أحس لأول مرة فى حياته أنه مسلوب الحول ... تائه اللب ، أحس أن شيئاً أقوى من عزمه يضطره أن ينظر للخلف ، ولو نظرة بارقة ... فوقع بصره على المرأة .
كانت ذات قوام ذابل ... مصفرة اللون ، يكسو وجهها تجاعيد تكونت عبر أيام وسنين شاهدة على كهولتها ووهنها .
خفق قلبه وارتعدت فرائصه ، وروعه وهنه ، ولم يدر لما هو حائر ، ولما هو فى هذه الحالة التى يرثى لها ، ولما هذه المرأة دون غيرها من نساء حواء ؟
تشجع ... أسرع يخطو مخلفاً وراءه شبحاً يطارده ... عاوده الأمل فى أن يصل للمسجد ويصلى الركعتين .
مضى يضحك لنفسه ، ويضحك من نفسه ، يحس تارةً أنه طفل برئ يضحك ، وتارةً أخرى بالبلاهة يضحك للمارين عليه حتى يضحكوا عليه وعلى أنفسهم ، أو يضحك كم تضحك الفلاسفة ... وتعددت الضحكات !
وانقضت ساعة أو بعض ساعة ، وأقبلت عليه تلك العجوز ، أقبلت عليه كأنثى تطالب بحقها منه ... تطالب أن تحس بأنوثتها !
- خائفة هى من الطريق .
اصطحبها ، جلسا على حجارةٍ كبيرة خلف قنديل مضيئ ... تحدثا معاً بصوتٍ مسموع ... تحدثا معاً بهمس .
وفجأة ارتعدت فرائصه ورزخت ... سحقه إحساسه بالذل والعبودية لهذه المرأة !
إزداد يقينه أنه مهما فعل فلن يفلت منها ، حاول بكل جهده أن يردها لصوابها وينقذها ... توسل إليها ، ولكن هيهات ... هيهات أن تتركه ، وانطفئ القنديل ، وانطفئ معه طيف الأمل ، وانهار جسر ظل لربع قرنٍ يشيده ... انهار فى دقائق ... وسرعان ما عاود القنديل الاشتعال من جديد بألوان طيف محلقةً فى سمائه .
( تمت )
سامح عبد البديع الشبة