من مكونات بنية الخطاب السردي
" المسرود له / عليه "
قراءة في قصص من شرق الدلتا
جمال سعد محمد
إذا كان السارد شخصية من خيال الكاتب قد منحها وجودا في القصة , ومنحها صلاحيات كثيرة بها يتحدد شكل القصة ؛ فإن السارد لابد أن ينطلق في قصته استجابة للمسرود له , لأن حديث الـ ( أنا ) هو عمق لخطاب الـ( أنت )، وحتي لو كان خطاب السارد هو خطاب الكاتب فهو بالتبعية يفترض الآخر أمامه فيروي له ، وإن اختلفت درجة حضور الآخر ( المسرود له ) فربما تزيد الدرجة زيادة تؤثر بدورها علي بناء الخطاب السردي ... وربما تقل درجة الحضور فلا تلاحظ لها أي تأثير قوي .
والراوي / السارد الذي يروي بما أنه أحد كائنات الورق فهو يفترض بالتبعية وجود ( المسرود له / المروي له ) انطلاقا من أن أي خطاب لابد له من مخاطب , فالخطاب الحقيقي لابد له من مخاطب حقيقي ، والخطاب المتخيل ( السارد / الراوي ) لابد له من ( مسرود له / مروي له ) لأن مجرد ظهور السارد ، وتمكنه من فرصة الحكي بضمير المتكلم ، فإذا بالآخر ( المروي له ) أمامه في مدي تخيله ، وتخيلنا الذي سمح لنا بتصوير الراوي نفسه وهنا لابد من توضيح الفارق بين ( الكاتب) و( الراوي / السارد) من ناحية ، وبين القارئ والمسرود له / المروي له من ناحية أخري وهذا علي النحو التالي :
الكاتب الراوي / السارد النص المسرود له / المروي له القارئ
ومعني ذلك أن معادلة :
الكاتب النص القارئ
هي معادلة حقيقية خارج النص ، والقاص أصبح أكثر حرصا الآن علي ( المتلقي / القارئ ) الحقيقي وهو حرص تجاوز المجاملات إذا كان القاص يسعي لإرضاء فضول القارئ أما الآن فالأمر اختلف وأصبح الكاتب يسعى لأن يكون المتلقي هو القارئ المنتج الذي هو بالضرورة جزء من التجربة القصصية . وبدأ الكاتب يسعي لضم المتلقي لتجربته بوسائل عديدة منها عدم وضع نهاية ، أو عرض وجهات نظر دونما حسم لوجهة نظر كلية ، أو تعمد الكاتب ألا يسدد كل الفراغات فيترك بعض مساحات التهميش الدلالي ليتمها القارئ بمدي تخيله . وفي كل الحالات أصبح القارئ الحقيقي جزءا من التجربة بقدر تفاعله معها ، ولم يعد هو القارئ السلبي الذي يكتفي بالاستقبال السالب غير المنتج ، ولأن التحديث السردي بمنعطفاته العديدة أصبح وسيلة فنية لإرباك الخلفية الفكرية التقليدية ، فيتحول بذلك داخل التجربة القصصية لأنه مع الفكر الجديد ، وتعدد وجهات النظر يحاور ويجادل ليقنع أو يقتنع .
وهو إذن يختلف في تعامله عما كان في النص التقليدي الذي كان يحرص علي تحقيق انفعال مع الثوابت الفكرية وكان هذا الأمر سببا في الاسترخاء إن لم يكن مساعدا عليه .
والاهتمام بـ ( المسرود له / المروي له ) في القصة يعني مزيدا من العمق التحليلي داخل الخطاب السردي , وعندما نتوقف هنا للبحث عن ( المروي له ) في نماذج من قصص كتاب شرق الدلتا - كما سيأتي بعد - . فإننا لا نهدف إلي إثبات وجود ( المروي له ) ، أو نكشف طريقة تحديده في القصص , وإنما بالإضافة إلي هذا نسعي لغاية أخري , هي الكشف عن أهمية المروي له ودوره في بناء النص .
هناك بعض الأعمال قد حدد شكلها ( المروي له ) بشكل مباشر, وعلي سبيل المثال ( ألف ليلة وليلة ) فشهريار الملك هو ( المروي له ) والذي مارس دوره المميز في التشخيص وكان بقسوته وتهديده لشهرزاد قوة دافعة علي الحكي ، ثم إن حالته النفسية هي التي فرضت موضوعات بعينها لارتشاف العظات والعبر ( 1 ) .
وتأتي أهمية دراسة المروي له من كون هذه الدراسة تسهم في تحقيق قراءة دقيقة والتوصل إلي تحديد خصائص العمل وتفيد في الوصول إلي تصنيف أدق للجنس السردي وإلي فهم أكبر لتطوره وبالتالي إلي إدراك جميع أفعال الايصال ( 2 ) .
إن هذا المكون من مكونات بنية الخطاب السردي قد لاقي تجاهلا وإهمالا ، إذ كان مختلطا بغيره كاختلاطه بالقارئ الحقيقي والقارئ الضمني
إن تسليط الضوء علي هذا المكون يساعد في الكشف عن مستوي من مستويات القراءة ظل غامضا ، يقول" سلدرن" : إن أثر نظرية" برنس" الموسعة هو إضاءة بعد من أبعاد القص كان القراء يفهمونه فهما حدسيا لكنه بقي مبهما وغير محدد ( 3 ) لأن هناك مشكلات تحديد تتعلق( بالمروي له ) وبقي أن نسأل : هل المروي له يمثل قارئا يهدف إليه المؤلف أصلا ؟ ، أم هو يمثل القارئ في كل وقت تتم فيه عملية استهلاك الأثر الأدبي ؟
إن بنية أي خطاب سردي تتكون من تضافر ثلاثة مكونات أساسية هي ( الراوي والمروي و المروي له ) ، وإن اختفاء ، أو انعدام أحد هذه المكونات يجعل بنية الخطاب السردي ناقصة ومختلفة مما يجعل عملية التواصل السردي غير ممكنة ذلك أن علاقة الراوي بالمروي له تخضع مباشرة لعملية الإرسال والتلقي المرتبط أشد الارتباط بثنائية النطق والاستماع ، فإذا اختفي أو انعدم احد قطبي هذه الثنائية أصبح التواصل أيا كان نوعه غير ممكن ، وبما أن العمل السردي ملفوظ لغوي وأي ملفوظ لغوي وأي ملفوظ شفوي وكتابي يفترض بالضرورة متكلما ومستمعا وقارئا لتحقيق التواصل الأدبي فإن وجود مكونات السرد أمر لابد منه في أي خطاب سردي ، لكن الأمر مختلف حسب نوع الخطاب , إن كان شفويا أو كان خطابا مكتوبا .
وعلي هذا فإن( المروي له ) ينتمي إلي مستوي الراوي دائما وهو علي صلة مباشرة به ، يبرز من خلال مناداة الراوي له ، ومن خلال توجيه كلام إليه ، ويمكن من خلال التطبيق علي أعمال" عبد الوهاب الشربيني" في مجموعته " إنسان عادي" ، و"سامح عبد البديع الشبة" في مجموعته " سنوات الجنون الأبدية " ، وعبد الفتاح عبد الرحمن الجمل في مجموعته " بيت ... النسيان " ، ثم سرد لعدد من أعمال الكتاب الآخرين للتأكيد علي موقع " المروي له " وأهميته وقربه في بعض الأعمال من الراوي .
( 1 ) سامح عبد البديع وسنوات الجنون الأبدية :-
إن سامح عبد البديع الشبة في مجموعته سنوات الجنون الأبدية قد استعان أيضا بالوظيفة اللغوية الثانية وهي الوظيفة الإنفعالية , وأهميتها دفع اللغة في نطاقها الداخلي إلي منطقة المتكلم , لتترك له مساحة فضائية لاستيعاب الصياغة , وواضح أن الوظيفة تلك تكاد تستوعب الوظيفة السابقة لكنها تجاوزها بهذه الشحنة الانفعالية المصاحبة .
فعندما يستحضر السرد قصة مريم التي كاد الكاتب يطير بها عشقا ثم تهلرب منه وتنكسر روحه , فينطلق ملفوظه مشحونا بكم هائل من الغضب والثورة .
" ... فليرحل الفراق , ولترحل الدموع .. ترسم بأصابعك صورة لفتاه صغيرة .. لها ضفيرتان قصيرتان ..تسكب زجاجة العطر البنفسجية علي المرآةو , فتمحي ملامح الفتاة .. " ( 9 ) . إن الملفوظ في الدفقة يأتي مشحونا بكم هائل من الانفعالات الطارئة التي أفرزها هذا الموقف المفاجئ من ارتكاب جريمة الرحيل .. ومن هنا توالت التراكيب في شكل ضفيرة تبدأ بالأمر التهديدي ( ليرحل الفراق ) ثم تتغير الضفيرة إلي الاستفهام التعجيزي ( أين عقد القران الذي طال انتظاره سنوات وسنوات ؟ ) ثم تعود الضفيرة إلي الاخبار المؤكد لمضمون التركيبين السابقين ( أسلمت له جسدك وارتخيت ) وهنا يمثل المروي له الجانب الايجابي المفتقد الذي يتحرك ليؤثر علي سلبياته وينتصر لايجابياته , وفي معظم قصص" سامح عبد البديع" يذيب الراوي استقلالية الأشخاص بسلطته القوية , مما جعل الأشخاص موجودة من خلال الراوي الأمر الذي وحد الرواية مع توحد الراوي ومن الطبيعي أن نجد أنفسنا أمام ( مروي له ) واحد في كل قصص المجموعة .
وقد لعب المحفز للراوى لاستكمال الجو الاسطورى الذى تدثرت به( قصص سرى جدا ص 41- مشهد سينمائى 47- حدودتة العمدة ص 51 شروق جديد 57 - داخل خارج 69)
وقد صاحب المروى له الراوى الا فى مناطق قليلة برز فيها الحوار الخارجى للاشخاص والذى استثمر للتهميش الدلالى وكان الراوى الاوحد قد تحرك بالقصص الا القليل ل -المروى له - من أجل وجهة نظر القاص والتى تعتمد على التأويل والذى يمكن للمروى له ان يصوغ العبرة ولا يستخلصها وقد يعمل بعكس الدرس الذى استخلصه وقد يطاول الراوى ويتسلط على بعض وظائفه اذ انه قد يأخذ منه زمام السرد فى بعض الاحيان فتتغير المواقع وتزدوج.
وفى قصص "سامح عبد البديع الشبة" يؤدى المروى له وظيفتين كبيرتين :
الاولى : تشمل كل ما يتعلق بالجانب الدلالى وعلى مجموعة القيم والافكار التى تبثها أوتتبناها القصص .
الثانية : مجموعة الوظائف الفنية الجمالية وفيها كل ما هو فنى وجمالى , وتجدر الاشارة انه لا تنفصل مجموعة عن أخرى الا ان أهم تلك الوظائف هو التلقى والتأويل حيث يمتلك المروى له شخصية فكرية مستقلة ومجموعة قيم ومعتقدات يؤمن بها, وله صوته الخاص والمتميز.
ففى قصة (استعدا للرحيل ) يقول القاص : "هذا الطفل الأسمر يفعل ما يشاء ويكتب ألف يقرؤه ياء يفرح فرحا .... ينقلب إلى بكاء ...) (10 )
إن الكاتب فى هذه المجموعة يمنح شخوصه حرية تعبيرية وتكافؤا فى الرأى مما يجعل قصصه حافلة بوجهات نظر داخلية نتيجة للتعددية الصوتية بين أبطال القصص , والتى تشعل بدورها نوعا من التوتر داخل القصص فتعكس التباين الفكرى والايدولوجى والفلسفى داخل مجمتع القصص .
" - سيدى ؟؛
- تحب تغير كام ؟
- سيدى ؟؛
- أنا عايز أقول إن الحلال فى الأغنية دى الفلسفة اللى اتكتبت بيها " (11)
*****
وستجدون الدراسة النقدية كاملةً على هذا الرابط :-
http://www.asmarna.org/al_moltqa/sh...938&postcount=1