حزن
لا اعرف ما الذي يعتريني؟ ولا اعرف كيف يتحول الرأس إلى مخزن للألم الضارب؟ حتى لتحس للحظات بأنه سيتوقف عن العمل، وربما من شدة الضغط والترجرج، سيتناثر إلى شظايا على شكل ذرات موزعة، لا ترى ولا تلمس، ويبقى الألم مسيطرا، فلا الرأس متوقف، ولا الشظايا متناثرة.
اخرج إلى باب المنزل، اعرض رأسي لصقيع الرياح المحملة ببرد الثلج الآخذ بالذوبان، محاولا تبريد غليان الدماغ المتأجج، والأفكار المكومة كجنين معتصم في رحم يعجز عن دفعه للحياة والنور، بكل ما فيه من طلقات ولادة متسارعة في النمو النابت من صراع الآلام المنبثقة من عذاب جنين يسكن رحما لا يستطيع الوصول إلى لحظة الميلاد.
يكويني الصقيع، تصطك أسناني، وتبدأ رجفة البرد تتلاعب في جلدي، ترقصه، أتوزع بين رأس مثقل، وجسد خزن بردا إلى أمد غير محدود.
اشعر بحاجة عميقة إلى البكاء والنشيج، بكاء يجمع الناس والأشياء حول معاناتي المتراكمة، لكنني أدرك وبلحظة ما، أن دموعي قد نضبت، جفت ينابيعها المتدفقة كشلال متساقط من أعالي لا يمكن الوصول إليها بالنظر.
احمل نفسي على نفسي المحطمة، أتعثر، أكاد انكفىء على وجهي، يتخلل مفاصلي وهن عارم، يقودني نحو التهاوي على أريكة تكره وجودي ورائحتي، لكنها تستقبلني بعجز من لا يستطيع دفع ما لا يحب وما يكره.
تتشنج أعصاب الرقبة، تضغط بكل قوتها على أعصاب الرأس، يتعاظم الألم، ويستفحل الوجع، اشعر بثقل يشدني نحو الغوص في مسامات الأريكة، كبخار يتلاشى في الجزيئات المكونة للقماش والخشب.
تتساقط الآلام نحو القلب، يتضخم، يبدأ بهز العظام، بخلخلة القفص الصدري، تتحطم المشاعر الملوثة بأفكار وهواجس مضطربة، مشوشة، ينتظم الألم كله وينعقد، كلبلابة عملاقة تمتد إلى كل المساحات المفتوحة والمغلقة.
أحاول النهوض، تتآمر أعضائي وأنفاسي، مفاصلي ومشاعري، على جسدي المنهك، المدمر، فاعجز.
أشاهد ابني وهو يقترب، محشوا بالفرح، ممتلىء بالنشوة، يقوده شعور الحاجة إلى الحنان، وإحساس في مسح رأسه، طلبا لدفء الأبوة، ورأفة الوالد.
يقترب وهو يرسم على محيا البراءة استجداء الطفولة، وتلهف الطيبة المرتبطة بفطرة لم تلوثها الأيام، ولم تسودها وجوه الناس المخترقة حجب الواجب، يتقدم، يرمي رأسه الصغير على فخذي، ثم يسحب جسده ببطء على جسدي، يصل خده الطري الناعم إلى شفتي، وينتظر.
أحاول رفع راسي، يدي، فاشعر بالعجز، بالتصلب، بالتخشب، تتقد نار من بؤرة خيبة عينية الصغيرتين، تشتعل بداخلي، اتوزع بين البرد الكاوي والنار اللاسعة، والعجز المتمكن من أطرافي، وخيبة طفل نهض مكسور الخاطر، محطم الحنان.
تقترب زوجتي وهي تعرف حالي، تمسد ما تبقى من شعر على راس اسقطت النوائب والأحزان ما عليه وما فيه، أحس يدها جبلا يهوي على قشرة الدماغ، وينبت بداخلي شعور معذب، حين أتخيل أناملها تنبت أشواكا تخز جلد الجبهة لتفرغ فيها ألما من نوع جديد.
أعود بعد ساعات من مشفى، مثقب العضل، وعلى معصمي سوار يحمل اسمي وتاريخ ميلادي، أحدق، فأرى الدموع تترغرغ في أعين أولادي وزوجتي، يتحولون إلى أشباح تتمايل نحو الاختفاء.
أصحو من جديد، احمل أعصابي، واتكئ على مفاصلي، اغرق تحت مياه ساخنة، اشعر بقليل من الراحة، بقليل من الوجود، بقليل من الحياة، أحاول أن ارسم بسمة، فاسقط من جديد بهوة من حزن وكآبة.
كم أنا بحاجة إليك يا والدي؟!
وكم أنا بحاجة إليك يا أمي؟!
ينتصب القبر المتلاصق لجثتي أمي وأبي بين عيني، يستع، يتمدد، تبدو مقبرة ذنابة أمامي، تماما كما تركتها قبل رحيلي من موطن الطفولة والشباب.
تخرج رائحة الموت، وتتسلل شقوق القبور الحاضنة أعشاب صفراء، صلتها الشمس ولوحتها، وأشاهد الحرادين المتنقلة بسرعة التفافية وهي تدخل فمي لتستقر في المعدة، ويصل لسع نبات البصلون إلى حلقي، ويتناثر طلع النباتات المحروقة المعذبة في صدري، وتدور زوابع مجنونة، في كل ما املك من رؤى وأحلام.
رحماك يا ربي،
رحماك.
جسدي الضئيل الضئيل، لا يحتمل كل هذا الحزن، كل هذا الوجع، كل هذا العذاب.
رحماك يا ربي
رحماك.
تمنيت لو ملكت الفرح ليوم واحد، لساعة واحدة، لوهلة أو هنيهة.
ولدت هناك، في مخيم منسي، لا تعرفه الشمس ولا يزوره القمر، يغرق في الوحل والبرد، ويتلظى بالشمس والقيظ، شقق الحرمان جلدي، وأنهك البؤس نفسي، ومزق الفقر حلمي.
وكبرت هناك، أتجرع عذاب القهر، والضغط، أكدسه من حيث لا اعلم بذاكرة غيبية، إلى يوم ضاقت الذاكرة بما فيها، فتخلصت منه دفعة واحدة بنشره في كل خلية من خلاياي، وفي كل وجبة من وجبات قلبي، وفي كل خفقة من خفقان روحي.
بي ما ينهك الصحارى، وما يثقل المحيطات، وما يطفىء البراكين، ويهدىء الزلازل، ولست سوى وجود صغير، تقتله شوكة، وترهقه دمعة.
مأمون احمد مصطفى
فلسطين- مخيم طول كرم
النرويج- 20-11-2006