صديقي ،
و أنت تستيقظ من نومك في الصباح و تخلع ملابس النوم لترتدي ملابس العمل أو ملابس التنزه، و تجلس إلى مائدة الطعام لتناول فطور الصباح، ثم تفتح الباب لتذهب إلى عملك إو إلى المنتزه، تجد الحياة في استقبالك دافئة، تطبع على جبهة طريقك قبلة الحظ السعيد، قتوزع المجاملات و البسمات هنا و هناك، و تستقبل مثلها، ثم تسأل هذا عن حاله و يسألك ذاك عن الصحة و قد تتبادلان آخر الأخبار عن الحرب أو تعلقان على حركة زئبق الأحداث و الحوادث في الترمومتر السياسي، و الوقت يجري هكذا بينكم مجرى الدم في العروق، يملأ دنياكم أملا، هو كل ما تنتظرون من الحياة أن تمنحه لكم مع كل إطلالة جديدة.
عندما تكون تفعل ذلك، أنا هنا، في انتظار جندي مثلي هو في هوية العدو اللدود، هو دائما هناك، يتربص خائفا، مثلي، لا يعلم أيعود في آخر النهار سالما إلى معسكره، أو يموت برصاصة مصوبة نحو المقتل.
لو كان هذا يحدث مرة واحدة ثم يجد كل واحد منا بعدها حظه لهان الأمر، و لكن حين يتكرر يوما بعد يوم، فإن إيلامه أشد من الألم ذاته.
تصور شفرة تفتح في جسدك جيوبا كلما طلع عليك نهار جديد، هل اتاك مدى ما يعتريك من الألم؟لا، لا تستطيع أن تدري بما أحس مهما تخيلت، ربما الجندي الآخر المتربص في الجبهة المقابلة يدري. و أجدني بين اللظة و الأخرى، أتمنى، بل أتوسل الجندي- عدوي اللدود - أن يطلق رصاصته كي أبادله بمثلها، ولعل الرصاصتين تكونان أكثر شجاعة منا فتتسارعان نحو بعضهما و تلتقيان كما يلتقي على موعد الأحباب، و تتعانقان بحرارة و مودة و تعلنان بكل برودة الموت هدنة أبدية.
و يعتريني الخوف، و للخوف هنا طعم آخر، و صفة أخرى مختلفة عن الخوف ..هناك. يلازمك كصديق حميم، و لا يجاملك بل يفضحك، و لكن حين الجد، عندما يخذلك كل ما حولك ، وحده يؤنسك و يساندك .
و هنا ، لا أحد يخجل من الصراخ بخوفه، فهو وطن آخر، هو الوطن الذي يضمك محاصرا حصارا يمنحك اإحساس بالحياة ، و يدثرني بأمان غريب يولد مع كل ارتعادة و قشعريرة.
نعم يا صديقي..
و أناشدك في الأخير، كلما أضاء عليك نهار جديد أن تتذكر بأن هناك، بعيدا، فوق ربوة أو خندق ما، جنديا أنساه السهاد معنى النور و الديجور، أناشدك بأن تتذكر.. و فقط.. و لا أكثر.. و لكن لا بأس من زيارة أمي في وحدتها الصامدة بعدما دفعت بآخر القرابين إلى مذبح البطولة، و السؤال عن حالها، ثم ارسم لي بعد ذلك، في خيالك بعضا من ملامحها، لأن بقائي هنا بجبهة القتال مدة طويلة أنساني كثيرا من تقاسيم وجهها الحزين و تفاصيل خطوطه الجافة.
و حين تسألك عني ، قل لها فقط بأن لي هنا .. إخوة آخرين، فلا تبتئسي.. و ستفهم.. كما تفهم في كل مرة.