المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عبدالسلام المودني
بقـــايا
شمس ملهبة تطأ رأسه، كثبان من عدم تنتصب أمام يومه. ينفث دخانه بضجر، حتى السجائر ما عادت تثير فيه حماسته الأولى. لا طعم ليومه الأشبه بأمسه، و غده مكرور لهما. مسخ مضاعف لأصل واحد )حتّى الذباب هجر الوطن(. صارت لازمة أوقات ضيقه التي هي كل أوقاته. كلما أمعن في رؤية الفراغ الذي ملأ أماكن عيشه أو طيف حياته.
مذ ولى من هناك وحيداً، ألفى كل شيء تغير، أو أنه لم يجد شيئاً البتة. لم تعد الصحراء جنته التي قاتل من أجلها، و الأهل لم يخلّوا وراءهم غير خرقة من ثقوب ذاكرة معطلة.
كلما استفاق من خدر ذاكرته هجعت حواسه، بيد أنّ صوتاً عميقاً أخذ يلح في طرق صماخيه. تنشط عيناه. يشرعهما ببله مبصراً أطيافاً تتهادى إليه من بعيد موجع. يدعك عينيه. يقرص خده، يتألم. حتّى الأحلام هجرت أوطانها و أخذت في نزقها النوم مخلية له نزراً منه، يعوده كلما عنّ له ذلك. و في اليقظة الفراغ، و الأحلام تحب الفراغ.
لم يكن يحلم، موكب يتقدم منه تسبقه موسيقى يعرفها جيداً. متهالكة تهوي إليه أجزاء من ذاكرته. متعبة تضمد غربته. يذكرها جيداً.
كم كره مطاردتها لألمه كلما تورط في تشييع و دفن واحد من زملاء الحرب. لم تُبقٍِ له أحداً منهم. ذهبوا كلهم و خلوه حيث العدم.
لاشك أنهم جند فقدوا أحد رفاقهم في حرب الجنوب التي سمع عنها، و فقدوا معه طريق حُفر الموت. هم يسلكون الطريق الخطأ. بحركة غريزية و قف مستعيداً نشاطه و لياقته و ألمه. أخذ يعدل بزته العسكرية المتآكلة. حين عاد لم يجد الوطن الذي قاتل من أجله لكنه أصر على الإبقاء على تذكار منه. يعدل قبعته التي أضحت أكبر من رأسه.
تساءل مرة بسخرية مريرة:
- هل القبعة التي تكبر أم هي رأسي التي تصغر؟
يمسح التراب عن مؤخرته. أول شيء سيخبرهم به أنهم ضلوا طريقهم. يتصلب في وقفة عسكرية صارمة. تتجمد عيناه حيث الأفق المديد. يلقي التحية العسكرية. يخطف نظرة. نعم هو جندي قضى أثناء عمله في الحرب. )لأجل مثله تقام مثل هذه الطقوس( فكر بذلك و هو يرمق العلم الذي دثر الصندوق.
تستمر الموسيقى في العزف. يستمر هو في مكانه. يتوقف الموكب. يتقدم منه جنديان. ازدرد ريقه بصعوبة بالغة. الموسيقى مستمرة. على إيقاعها يشرع الجنديان في حفر حفرة أمامه. مستمر في وقفته الثابتة، يريد أن يقول شيئاً فيمنعه احترام قديم للجندية أن يفعل. )هم بلا شك ضلوا طريقهم (.
تستمر الموسيقى في العزف. يستمر هو في مكانه. ينتهي الجنديان من الحفر. يضع آخران الصندوق جانب الحفرة. ازدرد ريقه بصعوبة بالغة. الموسيقى مستمرة. على إيقاعها ينزع الجنديان العلم عن الصندوق. يشرعان في طيه طيّاً محكماً.
يسرق نظرة أطول هذه المرة إلى العلم.) العلم للصحراء. كان لها. هو لها بألوان الطيف و الأطياف(. يسلمه أحدهما للضابط بكل احترام. يتقدم منه الضابط بكل احترام. يلقي العلم في الحفرة بكل احترام. ينظر إليه في الحفرة بكل قرف. يعرف تلك النظرات جيداً. تعدو الذاكرة مولية إليه. تقرفص على عتبات وعيه. تلك الملامح و النظرات مستوطنة منطقة زاد بعدها من ظلمتها.
تستمر الموسيقى في العزف. يستمر هو في مكانه. يدنو منه الضابط بكل حزم. يلقي عليه التحية العسكرية بكل حزم. يزدرد ريقه بصعوبة بالغة. الموسيقى مستمرة. على إيقاعها يمد الضابط يده بكل ثقة. يقولً بكل حزن:
- أعزيك فيك.
بحث عن أهله طويلاً في بٍيد ذاكرته ولم يعثر لهم على مضارب. يعرف تلك البحة و ذاك الصوت. لا يمكن، إنه هو. قتل في الحرب من أجل الصحراء كما زملاء الموت الآخرين. يذكر تلك الملامح جيداً. ذاك الوجه كان يراه كل صباح على مرآته عند حلاقته. كسرت المرآة و بقي الوجه يلملم شظاياه.
يستفيق من هذيانه على أشلاء موسيقى بعيدة لأطياف تبتلعها الصحراء، و علم بألوان الطيف دفين حفرة، و صندوق مفتوح خال تماماً، و عزاء قديم قدّم له فيه.
سلا 23فبراير 2006