َأهْرَاْمـاتُ الْضَّحـكِاهتز باب الشقة بدقات هادئة ، ظننت أنها فلول هاربة من عاصفة عابرة ، علمت أنها بصمة من بصمات حضوره المميز ، عندما انطلق الجالسون بصيحة واحدة ، زينتها الدهشة لهول المفاجأة ، انفجرت أفواههم بنطق اسمه تباعاً : "حازم ثابت " !!، التعجب كان حليف ِذكر اسمه دائماً ، السخرية المخضبة بالانبهار المتبوع باسترجاع أفعاله الغريبة تاجاً من تيجان سيرته الغائبة ، كنت قد التحقت بهم بعد الإعلان عن حاجتهم لمرافق يشاركهم مسكنهم ، عرفتهم نفسي ، عرفوني بأنفسهم ، بدأ التأقلم مع عادات كل واحد منهم يبني بيوتاً صغيرة لهم داخلي ، لكل منهم سمة تميزه ، عاداته الخاصة المختلفة التي ينفرد بها كل شخص عن غيره ، إلا أنهم اجتمعوا جميعهم على وليمة السخرية ، و التهكم حتى من أنفسهم أحياناً ، تعرفت على "حازم ثابت" من خلالهم ، شاركتهم الضحكات عندما كان يشرع أحدهم بتقليده بطريقته المضحكة التي تستدعي استجلاب مشاعر الهزل ، لترسم نفسها على معالم وجهي ، لم أحظ برؤيته من قبل ، لكني رأيت ما تركه خلفه من كتب باللغة الإنجليزية على مكتبه الصغير ، رأيته من خلال أشيائه غير المستقرة ، سرير سفاري ، دولاب رحلات صنع من جلد مصقول ، كرسي أشبه بكراسي البحر ، حاولت العبث خلسة في كتبه ، لكنها كانت تتعدى فهمي للغة الإنجليزية ، استنتجت من رحلة تصفحي القصيرة أنها كتب تختص بالهندسة ، والاقتصاد ، أشارت بعض لقيمات الكلمات التي التقطها ، والرسوم البيانية ، والتصميمات إلى ذلك ، رسم مجموع هذه الأشياء صورة " كركاترية " له بذهني ، لونها المقلد البارع "ياسر على" أحد فرسان الوليمة الساخرة ، بل وأمهرهم في امتطاء الشخصيات ، والعدو بها من حولنا ، لم يترك فيه شيئاً إلا وأصابه ؛ رأسه الحليق دائماً ، مشيته الكسولة ، عينيه المقفلة ، طريقته عندما يجد صعوبة في تذكر أسمائهم ، ملابسه التي لا تغادر جسده حتى أثناء نومه ، حقيبة كتبه التي تشبه أكياس الشحاذين ، كوبه الضخم ، ملعقته ، صحونه التي تتصدرها صورة الفأر الأمريكي الشهير ، حتى حذائه العسكري الطويل لم يسلم من إصاباته ، وسط هذه المسرحيات ، يقرأون على قوانين المعيشة بينهم ؛ مشاركتهم "جمعية مكافحة الجوع " ، هي جمعية فيدرالية من تأسيسهم ، يشترك فيها كل مقيم بينهم بسهم شهري من أجل شراء الطعام ، تركوا لي حرية اختيار يوماً من أيام الأسبوع لممارسة الطبخ ، يوماً آخر لغسيل الأوعية ، ويوماً لإشغال الغسالة بملابسي ، ركن أحدده من أركان الشقة يكون تحت سيطرتي التنظيفية ، الغريب في هذا الأمر أن "ثابت" كما يلقبونه ، كان بعيداً عن هذه القوانين ، على وجه الخصوص بند "جمعية مكافحة الجوع " ، أخبروني بأنه يأكل طعاماً من نوع خاص ، يشتريه من مطاعم تصنعه له خصيصاً ، يعتمد اعتماداً شبه كلياً على العصائر ، المعلبات ، الشيكولاتة ، بعض أنواع المكسرات ، لايسمح لأحدهم بمس متعلقاته الشخصية ، إن وقع واحد منهم في خطأ المساس بشئ من أشيائه تركه هدية له ، أو حذفه من حياته بصندوق المهملات ، بعدها يغسل يديه بجميع ماركات المعقمات ، كثيراً ما يغيب عنهم لأيام لا يعلمون عنه شيئاً خلالها ، يمحي اتصالاتهم فور ظهور رقم أحدهم على شاشة استقبال جواله القديم ، يثور لو تطرق متطفل منهم بسؤاله : أين كنت ؟ ، إلى أين أنت ذاهب ؟ ، لوائح قوانينهم واضحة ، بل وصارمة في بعض بنودها إلى حد لا يقبل المناقشة ؛ سداد الإيجار في موعده أول كل شهر ، عدم التخلف عن جدول الطبخ ، والنظافة تحت أي ظرف ، لكن ما أثار انتباهي ، أن عادات "حازم ثابت " الشاذة المضحكة ، كانت خطاً رئيسياً لقبولها ضمن لوائح هذه القوانين ، سألتهم عن غيابه أجابوا بصوت واحد : لا نعرف أين هو الآن ، غاب منذ أيام ولا نعلم عنه شيئاً ، لكنه يوما ما سيتحفنا بحضوره ، طارقاً علينا الباب ، ورغم انه يحمل مفتاحاً ، إلا أنه لا يستعمله أبداً ، زاد فضولي بسؤالهم عن دراسته ، أجابوا بنفس اللهجة السابقة : لا نعرف ماذا يدرس , ولا لأي كلية ينتمي ، يوماً نستقبله بكتب في الأدب ، يوماً يدخل علينا حاملاً أدوات هندسية ، وآخرها دخل علينا وعلى ذراعه معطف طبيب ، لا يسمح بالأسئلة أن تتسلل إليه ، وإن طرحت يتجاهلها كأنه فقد السمع ، انسحبت من هذا الاستحضار الذي غزاني ، تعلقت بالباب ، لأكشف إلى أي مدى وصل بي خيالي ، أردت أن أطابق الصورة بالواقع ، تقدم "مصطفى حسين " نحو الباب ، خلعه من مكانه ، كان أكثر فرسان الوليمة حكمة وعقلاً ، يصنع "إيفيهات " محبوكة ، تستدعي التفكير قبل الدخول في غيبوبة الضحك ، يستخدم دراسته لعلم النفس في إطلاق مسميات مختلفة علينا ، توجه بنظره محذراً "ياسر على " بأن يضع لسانه بالعلبة بدلاً من العفريت ، التزم الجالسون الصمت المحشو بطلقات الضحك ، تحرك الباب كي يكشف عن وجهه الملطخ بضباب الشتاء البارد ، بدأت مقاييس التطابق ترتفع ، تنخفض داخل ذاكرتي ، و نظرة مهيبة لتحرير النتيجة من قفصها,بدأ ظهوره يبدد الضلالات المتكتلة أمامي ، أثبت "ياسر على" - طالب الحقوق- أنه مصور من طراز راق ، الصورة كائنة كما وصفها تماماً ، ألقى علينا السلام كصدى صوت يرتد إليه ، رُدت إليه التحية بتواترات صوتية مختلفة ، كانت أقرب إلى لغة الوليمة الساخرة ، لم يتجرأ عليه أحد بالسؤال عن سبب غيابه خلال الأيام الماضية ، أضاع عليهم فرصة التمادي في محاورته ،دخل غرفته التي أتقاسمها معه ، غاب لحظات بالداخل ، كأنه أراد الاطمئنان على مصير أشيائه ، خرج معلقاً الكتابين رفقائي في رحلة التصفح القصيرة بأطراف أصابعه ، توقف أمام صندوق المهملات دفنهما داخله ، ثم هوس المعقمات ينهال به على مكتبه ، ويديه ، لفني الذهول وسط الغمزات ، واللمزات المتتالية ، كيف علم بأن يداً غريبة تلاعبت بكتبه أثناء غيابه ، سحب "مصطفى حسين " سؤالاً وصوبه نحوي ، هل لمست كتبه ؟ ، لجمني الذهول بالصمت الذي اقتحمه "حازم ثابت " بسؤال آخر ، طالباً به الكشف عن شخصية صاحب السرير الذي يرافق سريره داخل الغرفة ، أنقذني " أحمد عبد الله " أحد المقيمين معنا ، ومن أبرز رواد الوليمة ، بل هو المحرك الأساسي لها ، صاحب إشعال فتيل السخرية الأول دائماً ، أشار بكفه الأيمن نحوي ، قدمني له ، وقدمه لي ، فانزلق بنظره إلى أسفل قدمي ، ارتفع يتفحص وجهي ، هز رأسه أمامي، بادلته ترحيبه بقلق ، و خجل ، حيث كنت أستعد للإجابة عن سؤاله القادم عن سبب تطفلي على كتبه التي فقدها منذ لحظات ، خذلني ، انسحب بهدوء نحول الداخل ، كان لابد لي من تهيئة نفسي للتعايش مع هذا الكائن المريخي كما يصفونه دائماً ، خلعت جسدي من مكانه مصطحباً حفنات من الفضول ، فرضت نفسي عليه داخل الغرفة المشتركة ،كان ممدداً على سريره دون أن يخلع ملابس خروجه ، بيده كتاباً باللغة الإنجليزية ، تظاهرت بترتيب ملابسي ، لم يعبأ بوجودي ، شهقت شهقةً داخلي ، استعداداً لغزو فضاء هذا الكائن ، لكنني فوجئت به يسبقني بسؤاله عن مدى حبي للقراءة ، و التداخل مع عالم الكتب ، فهمت ما يرمي إليه بالطبع ، يستخدم طريقة محقق المباحث في استدراج المتهم للإيقاع به ، يريد الوصول بطريقة غير مباشرة لمعرفة المتسبب في فقده لكتابين من كتبه ، أجبته بالإيجاب ، لكني نفيت عن نفسي حبي لقراءة الكتب الأجنبية ، صمت لحظات ، لم أدعه خلالها يخوض بالتفكير في سؤال آخر ، صممت ألا يصل إلى ما يريد ، وانهلت عليه بسؤالي بعد أن سبقني بضربته الأولى :
- حضرتك تقرأ كتب أجنبية فقط ؟
- نعم . واسمي "حازم" بدون حضرتك.
- شرفت بك .
- أهلاً.
أعرض برأسه داخل الكتاب كالنعامة ، قررت أن أستمر في خوض المعركة ، رغم إجاباته المختصرة جداً ، والمحدودة ، كثفت الأسئلة مع استعدادي لتحمل النتائج :
- تقرأ أدب انجليزي؟
تظاهر بعدم السمع ، الإصرار كان يلح على بالمواصلة ، أعدت عليه السؤال :
- حازم . تقرأ أدب انجليزي ؟
رمقني بنظرة خافتة من خلف كتابه ، ازدادت حدة كأعين القطط السوداء بالظلام ، أعقبها بشرود غريب :
- هل تقرأ أنت أدب انجليزي ؟
- أقرأ روايات مترجمة .
- لمن ؟
- لـ (تشارلز ديكنز ، شكسبير ، أجاثا كريستي ).
- الترجمة لا تشعرك بلذة ما أبدعوه بلغتهم .
- أعلم ذلك . لكني لا أجيد الإنجليزية .
- واضح أنك تحب القراءة .
- أعشقها منذ الصغر .
- قلت لي ما اسمك ؟
- أخوك "عمر محمود ".
- أحب اسم عمر .
- أكرمك الله ، من لطف ذائقتك.
- هل قرأت عبقرية عمر ؟
- نعم . قرأتها .
- ما رأيك بالعقاد ؟
- العقاد مفكر وفيلسوف رائع ، أتفق معه في أشياء ، وأختلف معه في أخرى .
- تتفق معه ، تختلف معه ؟!
- نعم . وهل في الأمر غرابة ؟
- قلت لي ما اسمك ؟
- اسمي عمر . عمر محمود .
- آه . تذكرت .
- لا عليك .أعرف أنك تنسى سريعاً .
- من قال لك ذلك ؟
- الأخوة هنا بالشقة .
- هل حدثوك عني ؟
- نعم ذكروك بكل خير .
- وهل يعلمون عني شيئاً لينسبوا إليه الخير ؟
شعرت بوقوعي في خطأ جسيم , كاد أن يزج بي في براثن الوقيعة , وبذلك أكون مثل لاعب كرة القدم الذي سجل هدفاً في فريقه , لملمت الحديث , طويته سريعاً , لكنه هرب مرة أخرى إلى كتابه , أراد أن ينهي المعركة في جولتها الأولى . صممت أن أحقق انتصاراً أولياً في هذه الجولة , لن أدعه يفارقني دون عودة , لكن لابد ، وأن أنفرد به في ساحة أخرى بعيداً عن حصونه هذه التي يتحصن بها ، و يرواغني من خلالها :
- ما رأيك بأن نخرج ليلاً نغير من جو الشقة ؟
- نخرج إلى أين ؟!
- نجلس على المقهى الشعبي بشارع الألفي .
- أنا لا أجلس إلا على "كوفي شوب" بمدينة نصر .
- اتفقنا . ولك ما طلبت .
**** **** ****على المقاعد الجلدية الفخمة ، بركن احتوانا سوياً ، بتلك المقهى المحلاة بالطابع الأوربي ، انفردت به بعيداً عن المسرح الكوميدي ، الذي عج بالاندهاش فور اجتماعنا للخروج سوياً بهذه السرعة ، حمل معه حقيبة كتبه القماشية ، الملقبة بكيس الشحاذين ، أخرج كتاباً غريباً ، تصدر غلافه رجل وسيماً ، ببذته الأنيقة ، حاولت ألملم عنوان الكتاب الذي كتب بخط "الكوميك" الإنجليزي ، لكنني وجدت صعوبة بالغة في فك طلاسمه ، فكان السؤال عن اسم الكتاب دافعاً قوياً لبدء الجولة :
- ما اسم هذا الكتاب ؟
- اسمه (Forex Made East )
- ما ترجمته العربية ؟
- سوق تداول الأوراق المالية .
- اقتصاد؟
- نعم . للمليونير (جيمس ديكس )
- جيمس ديكس ؟!
- نعم . هل سمعت عنه ؟
- يخيل لي ذلك .
- أتمنى أن أصبح مثله ، رجل مكافح ، بنى نفسه بنفسه ، أبوه كان "مالتي مليونير " ، رغم ذلك اعتمد على نفسه ، عمل في كل شئ ، بدأ من نقطة الصفر ، حتى حقق ما يريد .
- حازم . ماذا تدرس ؟
- تشرب قهوة ؟
- ليس عندي ما يمنع ذلك .
- أحب القهوة الأمريكية كثيراً .
- وأنا أحب أن أجربها .
- سأقوم أحضر الطلب ، هنا قانون اخدم نفسك ،تماماً مثل قانون شقتنا.
شاركته ضحكاته ، كانت هي المرة الأولى التي ألحظ فيها شفتيه تنفرجان للضحك ، قام لإحضار القهوة ، حام حولى الشرود في هذه الشخصية المحيرة ، أحياناً يطل من نافذة الانتماء الغربي ، أحياناً يحدثني عن العقاد ، عقر دار الأدب العربي ، والآن يقرأ لمليونير إنجليزي ، يتخذه قدوة له ، يتلون كل دقيقة بلون مختلف ، يصعب علي تحديد هويته وسط هذا الغموض الذي يتشرنق به ، عاد حاملاً صينية عليها قدحين من القهوة الأمريكية ذات الرغوة الكثيفة ، تنفذ من وجهه سعادة خفيه تستفزني ، كنت أقترب منه ، أنجذب نحوه ، رغم حداثة معرفتي به ، جمد بحضوره سيل التفكير المنصب على رأسي ، انشغل بفتح كيس من السكر ، صب محتوياته بقدحه ، نظر نحوي ، يلتهم ملامحي ، انطلق من صمته :
- تريد أن تعرف ماذا أدرس ؟
- نعم . إن كان لا يضايقك ذلك.
- قل لي ، ماذا تتوقع أن أدرس ؟
- أتوقعك طالب بكلية التجارة ، أو الهندسة .
- لا هذا ولا ذاك ، خاب توقعك .
- إذاً ، ماذا تدرس ؟
- أنا طالب بمعهد الفنون المسرحية .
- معقول ؟!
- دراسة فريدة . أليس كذلك ؟
- نعم . هي كذلك لكن ...
- أعرف سؤالك القادم . لكل مخلوق حيله الدفاعية ، ولكن السائد الآن من هذه الحيل بين بني البشر ، حيلة الضحك ، نهرب من أنفسنا ، من التفكير في هموم مستقبلنا بالضحك ، بل نبني منه أهراماً داخلنا ، انظر حولك لهؤلاء الناس ، كل واحد منهم داخله هرم استغرق في بنائه ليدافع به عن نفسه أمام تلك المعتقدات المجتمعية التي تهاجمه .
- لكنك نادر الضحك .
- نعم. اتخذت شكلاً آخر للدفاع عن نفسي من تلك المعتقدات التي تلفنا ، أبني هرمي بطريقة مختلفة ، بقراءة غيري ، العيش مع شخصيات المسرح ، أنسى من أكون ، وماذا أريد ، أفكر بتفكير ، الطبيب ، الضابط ، المهندس ، الفلاح ، المحامي ، وأحياناً اللص ، أفكر كما الشخصيات الأجنبية المترجمة التي تقرأها ، رسمت بأقلام كتاب يعرفون ما يكتبون ، أنسى بينهم التفكير في ذاتي ، همومي المستقبلة ، أحزاني الماضية .
- أنت إنسان غامض .
- كيف تتهمني بالغموض ، وأنا أكشف لك نفسي الآن .
- لكن هل ترى أن حيلك هذه ...
- عمر . أجدادنا الفراعنة مثلاً ، كان محور التفكير عندهم ينصب على قطبين ، قطب الحياة ، قطب الموت ، همهم المستقبلي هو الحياة الأخرى ، همومهم لم تكن مثل همومنا ، فقد حققوا كل شئ ، وعجزوا عن الخلود في الدنيا ، لذلك بنوا لأنفسهم أهراماً يدافعون بها عن أجسادهم ضد فكرة الزوال، كان همهم الأكبر هو الحياة ، الخلود ، حضارتهم هذه لم يصنعوها من أجلنا ، ولا من أجل الأجيال القادمة كما نعتقد ، بل صنعوها من أجل حياتهم القادمة بعد الموت .
- أنت تعتبر أهرامهم حيلة دفاعية ضد الموت؟
- نعم. ونجحوا في تخليد أسمائهم ، لكن أهرام الضحك التي نبنيها الآن نبنيها للهروب من الواقع المرير ، ومن شبح حاجات الحياة الذي يهددنا ، نتباهى بأهرامهم الشامخة، وننسبها إلينا، ونسخر من أهرامنا ، لا نحترمها .
- لذلك قررت أن تبني لنفسك هرماً بطريقتك .
- نعم . هرماً أحترمه .
- لكنك بذلك تغلق على نفسك كهفاً ، قد تنسى فيه ، تعيش مع غيرك ، لا تعيش نفسك .
- لم تشرب قهوتك .
- حازم . أليس من الغريب أنك لم تسألني عن نفسي طوال حديثنا .
- ياصديقي ، ما تحويه نفسك لن يفيدني .
- لكني انتصرت على غموضك ، ونجحت في الوصول إليك في ساعات معدودة .
- تقصد ساعات ماضية ، لكن هل تعلم ما سأفعله في ساعاتي القادمة ؟ .
- أنت ...
- أنا أتلون كل يوم ، كل ساعة ، كلما توصلت إلى ، سبقتك إلى شكل آخر ، لن تنتصر على بهرمك هذا التافه أبداً .
- هرمي ؟!
- أشرب قهوتك . فالوقت قد طال ، أفضل الانسحاب .
**** **** ****لا أفهم شيئاً مم يقال في المحاضرة ، كانت أفكاره تحاصرني ، استقبالي للمعلومات يتلعثم ، تخلى عني التركيز ، كانت فكرة بنائه لهرمه تسيطر على ، مسحت الوجوه من حولي ، وجوهاً سلمت نفسها للأيام ، تشكلها كما تشاء ، لا يفهمون سوى لغة واحدة ، لغة اجتياز الامتحانات ، الشهادات ، الأوراق ، لن يعيشوا سوى داخل أنفسهم ، ولو تقمصوا آلاف الشخصيات ، لن ينسوا أهرام الضحك التي سيطرت على عقولهم ، تركتهم خلفي يخادعون بعضهم البعض ، يسخرون من بعضهم البعض ، عدت لهرمنا الأكبر ، شقة الهزل التي تجمعنا ، الخشية من لقائه تقتحمني ، ترددت كثيراً قبل أن أدير مفتاح الباب ليفسح لي الطريق للدخول ، استعرت الجرأة من قلب آخر ، غير قلبي الذي يتهشم بالخوف ، تهيأت للقائه ، تظاهرت بالثبات ، دلفت بخطوات بليدة نحو غرفتنا المشطورة ، كي أجدها خاوية إلا من سريرى الخشبي الراسخ ، خزانة ملابسي الثقيلة ، مكتبي القديم .
محمد سامي البوهي