المقامة التتاريةحدثني ليل ابن نهار قال:
لما هجم التتار الملاعين على أرض الناس الطيبين ، خشي القواد من التصدي لهم ، وولوا على أدبارهم، وكان في هذا الحين ، أحد المماليك المدعين ، وكان يصرخ في كل مكان، أنه بطل الإنس والجان، وصاحب الضربة القوية ، والهمة العلية، فلجأ الأهالي إليه فزعين، لكي يحافظ على الأرض وينصر الدين، لا سيما وهو مملوك أكبر ولاية ، وإليه و إلى عائلته تصب أموال الرشاوى والجباية،
فقال في صوت قبيح منكر ، وهو يسابق الريح إذ أدبر:
- يا أولاد الكركوبة، أتريدون التخلص مني في مغامرة غير محسوبة!
فتقدم فتى نحيل، وقال بصوت جليل:
- دعوكم من هذا الرعديد الجبان ، وهيا لنقاتلهم قتال الفرسان الشجعان .
فأبلى بلاءً حسنا، وحمى أرضنا والوطنا. وبث في الناس علو الهمة ، والغيرة على شرف الأمة وجعل في التتار الملاعين مقتلة كبيرة، كانت حديث المحللين في كل قناةٍ وجزيرة ، وقاتل الأعداء بالطول والعرض، فمنحه الناس لقب ابن الأرض. ويا له من لقب مبارك ، استحقه بجدارة بعد أن فاز في كل المعارك، وحمدت الله على أفضاله أنني كنت معه .
ثم سمعت صيحات شديدة بعد المعمعة ، تأتي من مكان بعيد عن الموقعة ، ورأيت رجلا شاخصا يجمع الناس حوله وهو ينشد فيهم بنقيق كنقيق الضفدعة :
أنا الذي هزمتهم يا ناسُ أنا الردى عند الوغى والباسُ هذا دمي فداؤكم والراسُ من أجلكم حتى ولو تنداسُ
فتفرست فيه فإذا هو أبو علي الفهلوي، فقلت له:
- ما هذا الذي تفتريه يا أيها الدعيّ ؟!
فأشار إلى الناس ناحيتي بالسبابة ، وقال لهم :
- اضربوا هذا الكذاب ابن الكذابة!
فعدوت خوفا منهم ، متعجبا من شدة تأثيره عليهم
وسمعته يقول، وأنا بين خوفٍ وذهول:
الناس ههنا معي كخاتم في إصبعي
ثم هتف بهم أن دعوه ، فتركني تابعوه ، بعد أن وضعوني بين يديه ، وقال
- ألم يقل أمير الشعراء :
يا له من ببغاء عقله في أذنيه
قلت (وأنا في غاية الحسرة ، أتجرع كأس الخيْبة المُرَّة ) :
- بلى ، رحمة الله عليه!