مكابدات الطائف الطويلة!!
حملتُ رفشاً كما يفعل الفتوّات، وأمام عتبة قلبي حفرتُ قبرا،لأدفن فيه حبّا قد يأتي على حين غفلة ويفكر باقتحام ممرّات شراييني، واستنفدتُ كلّ قواي في إعداد القبر، وتركني الحبّ حتى استتممتُ حفرتي، ثم دفع بي فيها، ونفذ إلى القلبِ الذي غاب عنه حاميه وهو يصيح:
"من حفر حفرة لأخيه وقع فيها"!
المكابدة الأولى
ربما الكون هو الذي يتقولب الآن على شكلي الجديد، يتشرنق متنبئا بجنين سيخرج من صفحة باهتة إلى صفحة مشبعة بالألوان والروائح وإيحاءات الصوت.
أتوقُ إلى لحظةٍ حلوةٍ
تقرّبني من لظى شفتيكِ
ويا ليتني كلّما غبتِ عني
أموت، وأحيا بلمسِ يديكِ
**
أقلّب ُ في الأفق طرفا صبيبا
وأرفلُ في حزنِ ورقاءِ أيْكِ
وأمسي وقد خلّفتني النوى
صريعا على نصل شوقي إليكِ
المكابدة الثانية
البارحة كان الصقيع شديدا،ولكنّي بتّ متعرّقا،أصحو نصف صحوة،وأمسح صدري وأعود فأنام،ولكنّي صحوتُ اليوم فلم أجد رائحةً لعرقي،بل وجدت شذاكِ أنت،فاشتقت إلى الصيف.
مجنونة هذه الشهقات،التي لم تشهد لها الدنيا مثيلا إلا في أطفال ناموا وهم يبكون،واستمرّ النحيب وهم نائمون،أنا بطل العالم في شهقات الحب الملتاعة في تلك الليلة فحسب.
خذا عنّي اللحافَ لعلّ برداً
يزيح بمهجتي هذا الحريقا
ولا تستأنفا عذلا جديداً
إذا أصبحتُ في دمعي غريقا
وتحتَ الحاجبين أطعتُ طرفا
أذِنْتُ له بأن يبقى طليقا
إذا أنا لم أُطعهُ بقيت شخصا
يُراوِحُ في اغتماضتهِ مفيقا
وأقسم لا يلذّ له نعاسُ ُ
ولا يُلفى المنامُ له صديقا
سأقعي في الظلام هناك وحدي
ونورُ الشُّهْبِ يلبسني البريقا
أخطّ بأصبعي في الرملِ حرفاً
إذا لم ألقَ لي قلَماً رفيقا
ولي خلف التلالِ هوىً وثيقُ ُ
أضعتُ لأجلهِ العهد الوثيقا
أثار ببعدهِ زلزالَ شوقٍ
وشقّ بهِ لأحزاني الطريقا
وخلَّفَ خصبَ أيامي جفافاً
فأيبسَ -ويحهُ- الغصنَ الوريقا
إذا أنا لم (أصبّحها بخيرٍ)
فلا أبصرتَ يا طرفي الشروقا
وإن جنّ الظلام ولم أرِحها
على صدري وجدتُ به ِحريقا
المكابدة الثالثة
في العاشرة من كل صباح وعلى الريق،أنت في معجون أسناني وطبق إفطاري،وقبلَ ذلك،أنتِ في ترنّح قدمي المرتبكة،وفي قبس الضوء الأول وهو ينفذ إلى كياني،من خصاص عينيّ اللتين تنفتحان للتّو،بل في التنفس الأول من أنفاس استيقاظي،فهل تسمحين لي أن أحلم بأن أكون أغنيتك الأولى؟
تهطلين فيبدأ الغليان،وتتنافض جميع قطرات الدم بين قطرة قافزة لردة فعل الهطول،وأخرى منفجرة من الداخل بسبب البركان،حفلة دموية بكل معنى الكلمة،الارتواء فيها والظمأ يتناسيان أحقادهما القديمة، ويتآمران عليّ في رقصة مشتركة.
أتلكَ عيناكِ، أمْ حتفي،فأنْقادُ ؟
أم أنتِ لي قدَرٌ والوصلُ ميعادُ!
مثلَ الفراشاتِ،هذي النارُ تحرقني
وإنّـمـا أنـا مسحورٌ .. وأَزْدادُ!
**
يا ذاتَ شَعْرٍ كجُنحِ اللّيل تُسدلهُ
على قوامٍ لـه في القلب إيـقـادُ
أخشى على الحبّ أخطاراً تحـفّ بـهِ
كـمـا يطـوفُ على الـمحـكومِ جلاّدُ!
**
سأحرسُ الحبَّ : عَـبـداً عندَ حائطهِ
كمسـجـدٍ قـامَ فـيه الليلَ عُـبّادُ
وأكتفي بكِ لي زاداً إذا عَصَفَتْ
بيَ الحياةُ، وقلّ الماءُ والزّادُ
**
أنتِ الربيعُ الذي هبّت نسائمهُ
وللبلابلِ تغـريد ُ ُ وإنـشـادُ
لكنّ في قدمي قـيـداً يـكـبّـلها
ودون مرآكِ أسوار ُ ُ وأرصادُ!
**
والناسُ منهمْ فتىً جَلْدٌ إذا عصفتْ
به الكروبُ، وما في الحبِّ أجْلادُ!
وكيفَ يصبرُ منْ ذابتْ له كَبِد ُ ُ
وإنما الناسُ -لو فكّرتِ- أكبادُ!
المكابدة الرابعة
لقد مررتِ بظلك الجميل على فؤادي،ولكن لا تنسيْ أنّ المرور بالظلّ لا يكون إلا حينما يكون ثمّة ضياء،أمّا في الظلام، فإن الظلّ يموت، أو ينزوي، لأنه يعلم أنه لا مكان له هنا، وعندئذ لا تجدي مناجاتي لك من جوف العتمة.
ألومُ شوقي فيكِ ، لا يفهمُ !
وأنتخي بالصـبرِ، لا يُـقدِمُ !
وفي دمي شخصانِ : مُستنكِرٌ
وآخرٌ ولـهـانُ مسـتسلِمُ
واحرَّ قـلـبٍ في أخـاديدهِ
يختصِمُ الكـافرُ والمسـلمُ !
عشْرةُ أيـامٍ لَوَتْ معصمي
والحُرّ لا يُلوى لـه معصمُ
َأبِيت ُلا أبصِرُ في وحدتـي
إلاّ ظلامًا وجـهُـهُ أسحمُ
ونجمةُ القطبِ لها ومضةٌ
مولعةٌ بالرقصِ لا تسـأمُ
حتى إذا لم تبقَ لي طاقةٌ
على جوىً في أضلعي يلطمُ
كميّتٍ يـطـرق تابـوتَهُ
مستصرِخاً ، تحت ثرىً يجثمُ
الموتُ في تابوتهِ ظالمٌ
والخوفُ من ميتتهِ أظلمُ !
أصيح بي : يا قلبُ! يا نخوتي
يا صبرُ ! يا أعصابُ ! يا مسلمُ
وكـلّهـا ترتـدّ عن صُحبَتي
كأنـنـي وحـدي أنا الأجذمُ !
خمسةُ أعوامٍ ، وما زلتِ بي
كالخنجر المسمومِ لا يرحـمُ !
بي ظمأ ٌ إليكِ ، لا يرتـوي
ولو جرى في ظمئي زمـزمُ !
َأِبيتُ في الرمـلِ على شُعلة ٍ
شُهبُ الفراشاتِ بها تُـعـدَمُ
يقفزْنَ فيها, وأنا لابــث ٌ
ذقني على كفي ، وحزني دم ُ!
لا ناطق ٌ، لا سامعٌ منصتٌ
لا شيءَ إلاّ صمتي المُبهَم ُ !
يا أنتِ، ما بي غيرُ دوامـةٍ
مسعورةٍ هوجاءُ، لا تُهزَم ُ!
تجتثّ أشجاري، وفي داخلي
تدحـرجَ المـاردُ والقمقمُ!
يا أنتِ يا قلباً، ويا قالـباً
ويا كياناً كـلّـهُ "مـريـمُ" !
يا شفَة ً غائبةً في الدجى
ضائعة ً يبحث عنها الفم ُ!
يا جسداً ما نمتُ في ليلةٍ
إلا وزندي حولـهُ مِحزَمُ!
ما زلتُ أرثيني وأرثي لهُ
حتى خَبَتْ في الأفُقِ الأنجمُ
لا تـسـألـي بالله عن ليلتي
الموتُ من هذا الضنى أرحمُ!
يـا قـصّـةً ليس لها آخرٌ
وطعنةً ليس لها بـلَْـسَـمُ!
أراكِ في الأسـحـارِ مبثوثةً
وفي انبلاجِ الصبحِ إذْ يبسمُ!
وفي غروب الشمس إنْ أقبلَتْ
مائلةً نحو الـثـرى تـلـثمُ!
في الشفق الساجي ، وفي عتمةٍ
كـأنـمـا جدرانها مَـيْـتَـمُ!
أراكِ في التاريخِ ، في حاضري
فهل أنـا أمْ حـبـّي الأقـدم ُ!
أراكِ فـي مستقبلي ، يـا تُرى
أصادق ُ ُ أم ْ أنـنـي أحـلـمُ؟
المكابدة الأخيرة
لا أخجل أن أستجلب عطفك بضعفي،لأن ضعفي هو الذي أوقعني في شراك حبك منذ البداية،وقد أدركت -متأخرا جدا-لماذا كان الشعر الغزير صفة جمالية في المرأة،هذه الغدائر المتماوجة في سحر سرمدي ما هي إلا إشارة إلى الصفة الغالبة في جنس النساء:أنّه لا تحرّر من شباك حبّهن إلا بالموت.ولم أعد أحمل إلا همّ الجراد الذي هجم على خضرة طمأنينتي،كيف أصرفه ليأكل جنوني الأشدّ خضرة،والأشدّ فوحاً،والأشدّ بريقا وتموّجاً تحت ضوء الشمس،لكنّي أعود لأتذكر أن أسراب الجراد لا تأكل الأخضر وحده،بل تأكل الأخضر واليابس معه.
1
ماذا أقول وهذا الليل يطويني
والوجد يقتلني طورا ويحييني
ماذا أقول إذا لم يبق لي جلَد ٌ
على ابتعادكِ والأشواق تضنيني
أأنصح القلب؟ ليس القلب من حجَرٍ
ولا يصدّق –مهما قلتُ- تطميني
إني عشقت ُ فلما تهت ُ من فرحٍ
فارقت مملكة الأعناب والتينِ
غادرتُ بستانَ أفراحٍ عبرتُ بهِ
من اليباس إلى دنيا الرياحينِ
"متى تجيء؟!" سؤال ٌ باتَ يأكلني
كأنه يبتغي قتلي وتكفيني
لا تسأليني متى آتي،ففي قدمي
قيدٌ ، وأثقال هذا الليل تضنيني
غداً أجيء،ولكنْ ،ما أقولُ غداً؟
إن لم أجد لي َ عذرا منكِ يحميني
وكم غدٍ صار من أمسٍ،ورُبّ غدٍ
اَلله ُ أجّلَ أن يأتي إلى حينِ
صبرتُ عنكِ فزاد الصبر من قلقي
واستأنف القلب نبضا لا يحابيني
واستوطن الكرب في الأعماق،وانتشرتْ
للذكريات سيوفٌ في شراييني
فصاحت النفس والآلام تطحنها:
ناشدتكَ الله إلا أن تراعيني
واصدع بحبكَ،إن الصبر من سفهٍ
وخلّ عنكَ محاباةَ (السلاطينِ)!
فليس للشوق إلا الوصل يسعفهُ
وإن أبيْتَ،فنمْ في الوحل والطينِ
2
آه من بحّة صوتك،ذلك المنشار الذي لا يفارق عادته،يبتر غاديا ورائحا،يقطع صاعدا وهابطا،يفتّتُ مرحّبا ومودّعا،يجنّد الخلجات تجنيدا إجباريّا،يلغي حُجب الفراسخ والأميال بسرعته الضوئية،ويدخل بالنبضات عالم تحطيم أرقام السرعة القياسية.
قالتْ سلوتَ ،ولستُ بالسالي
كيف السلوّ ُ وهذه حالي؟!
قالت سلوتَ،وليس من خلُقي
أني أغالطُ مَنْ على البالِ!
ليس الظلام،وإنما فِكَري
تأتي إلي بسيئ الفالِ!
ليس الظلام،وإنما شبَح ٌ
قاس ٍ يمرّ مرور خيّالِ
إني أراهُ ولا أكادُ أرى
كالنجمِ يُلمَح بين أدغالِ
والعينُ والأذنان تخدعني
وأنا أطاردُ وهم تمثالِ!
وأنا كماش ٍ فوق قنطرةٍ
والكونُ مرتجفٌ بزلزالِ
لا الصبر يسعفني ولا أملي
والباب موصودٌ بأقفالِ!
وآه من لثغة الراء في فمك،التي إن كانت تشبه شيئا فليست إلا كنقشٍ حريريّ اتخذ له مقعداً في دنيا من المخمل.
الهاتف الجوّالُ نغمتُه ُ
تحيي المواتَ بجسميَ البالي
الهاتف الجوّال يوقظني!
أفديكِ يا نغماتِ جوّالي
والحرفُ "ميمٌ" أكسجينُ دمي
ما في الهوى حِيَلٌ لمُحتالِ
و"أنا أحبكَ" كلْمة ٌ عبرتْ
وتمدّدتْ بجميع أوصالي
حرف الجيم قصّة أخرى،ليس حرفا أصمّ في فمك،بل يجيء بوحْي من الغسق،كإشارة نداء أطلقتها عابرة محيط ضخمة تخترق الضباب،ليس إلى شواطئ البحر،ولكن إلى شاطئي الذي ثنى ساقيه إجلالا،وأطرق برأسه حيرة،أمام هذا الزخم من الفتنة.
والموج يخفضني ويرفعني
ويشقّ أوردتي كشلاّلِ
تجيء الجيم من فمك فتحرق في سبيلها كل الجيمات الصمّاء،وأتمنى لو أزجّ بها في مخارج أفواه كل الصبية الذين يتعلمون الكلام،لأجد من يتذوّق معي،في براءة بيضاء،متعة وعناء هذا الاحتلال الجيميّ المستبدّ!
و"متى تجيء"؛ فأنثني ألماً
وأثور في أصفاد أغلالي
لا تنطقيها فهْي تأكلني
وتميتني يا "ميمُ" في الحال!
خلّي الشهيق يتوه في رئتي
ويعود مصحوبا بآمالي
**
3
ومتى كان صوتك الأبحّ إلا كوخز العطر في أنف الوليد الذي يتفتق عن عطسته الأولى،العطسة البكر التي يتعرف بها على عالم سيكون له نصيب وافر من عمر حواسّه،عالم اسمه العطر.
صوتك الأبحّ،بالنسبة لقلبي الذي عاد طفلا،أرجوحة بعيدة المدى،الذهاب فيها ينسي معنى العودة،والعودة منها تعني موت الفجأة.
سؤال:
تسائلني –وقد ضحِكتْ- فتاتي:
"تخيَّرْ،ما الهديّةُ حين تاتي؟"
جواب:
إذا لم تسبقي كل الهدايا
إليّ،فلست أحفلُ بالفُتاتِ !
وما فقدي لأغلفة الهدايا
-وأنتِ لديّ- ينقص من حياتي!
أما وشوشتك،فهي كائنات ذات حراشف زلقة،تنطلق من أذني زاحفة نحو كل الجسد ممارسة فيه كل جرائم الانتهاك،لتلتهم بأنيابها المدبّبة كل الغشاءات التي تغطي فوهات ينابيعه المتعجرفة، ويصبح كيانا رهيفا معلقا متأرجحا، العضو الثابت الوحيد فيه أذنه، وبقيته الذائبة مشنوقة بعنقها بأنشوطة الوشوشة، كقماشة مبتلّة تلهو بها هبّات طائشة.
وغنّتك التي تشبه مقطعا بكائيّا،بالنسبة لصلابتي،أفران تنصهر فيها كل الأشكال الفولاذية لصلابة الرجل.
وكحّتك الرقيقة،التي تحاكي رقّة خصرك،بالنسبة لوجيب صدري،فأسُُ باترة تحيل عظام ضلوعي حطاما هامدا.
ويتردّد نفسك المكوي بلظى الاعتراف،فأتمنى لو كانت للأنفاس قناني بلّوريّة تودع فيها،لأدفئ قارّتي الجليديّة بلظى زفراتك المتولهة.
ولا أسطيعُ أتركُ منكِ شيئا
ولا حتى التراشقَ بالنّـِكاتِ!
أنا لكِ،أنتِ لي،والكون خلفي
وخلفكِ،والهوى كلُّ الجهاتِ
ذريني أستريحُ على يقيني
وأحمي الوصلَ من خطر الشتاتِ
فما بالذكرياتِ لي انتفاعٌ
فأطعمَ حاضري من ذكرياتيِ!
ولا أبني غدي بغراسِ أمسي
فكلّ صبيحةٍ أنا في حياةِ!
**