الإهداء : إلى الأديـب النقي مَـأمون المغازي : جزاكَ ربّي والأحبّـة كلّ خير، سأظلّ ممتنـة لكمْ ما حييت..
في لَحظةٍ سَرَقني فيها الصّمتُ مِنَ العَالم، بلْ وخَطَفني إليهِ مُبعْثرَةَ الحرفِ والرّوحِ والمَلاَمِح، مُحَمّلةً على أجنحةِ حُلـمٍ خَائف، أَدْركتُ أنّ النّزفَ الذي كان يشقُّ مسامّي شقّاً وهو يَنصَبُّ من الرّوح، يَحْرمني حيـاةَ الأفق، وقَد علّقتِ الذنوبُ بجِيدي طَوقاً مِن الغَفلـة !!
هلْ أدركتِ أخيراً يا نَفسي المُهتَرئـة بالخَطَايا، أنّ حياةَ الأفق تمتَدّ من أَعمقِ نَبضةٍ بالقَلب إلى أَبعد نجمةٍ لتقرّبَهـا ؟ إلى أكبـرِ غَيمة لتمْلأَها وَرْداً وشِعراً وحيـاةً ؟ إلى أكْثرِ القُلوبِ وَفاءً للّـقـاء، لتَبْني لَها غيمَةً لا يَدْخلُهـا إلاّ المُحَلّقون، نَوافذُها مَنْقوشةٌ بالقَطْـر، مَصنوعة مِن صَْندلِ الصّبر، ولَبِنَـاتُها مِن الإيمَان المُحلّى، بينَمَـا الغَفْلةُ قدْ شقَّتْ جُيوبَها، تبْكي ظَهرَها المُلهَبَ بسياطِ الندم، والكونُ كلّه معلٌَّق بينَ أجنحة الخَوْف والرَّجَاء، قد أصْلحَ بَوْصلةَ قلبِه المكسُورة، لتحرُسَ قافلَةً واحدةً لا تُسَافرُ إلاّ حيثُ تَحُطّ الشَّمْسُ رِحالَها !
مَا أحوجَكِ يا نفسي إلى تَرْتيب مَكتبتِـكِ، وتعهُّدِ أراضيكِ بالسّقْي والزّراعَة والتّشْذيب، إلى مُداواةِ جرَاحِكِ بضوْع البنفسَـج، حتّى تقرّ عينُها ببسْمَـة ! ها قدْ أدركتِ أنّ بوحَكِ المُرَّ عذبٌ وهوَ يُحتسَى بكؤوسِ الأوْبـة، فاحْمِلي أشواقَكِ الظّمْأى، ومُدّي قناديلَكِ المُنطفئـة إليها، ثمَّ اعبُري الضّوْءَ المتثائبَ بعيونِ القَمَـر، فَبَيْـنَ الشّوقِ واللقـاءِ خُطــوة !
هُناكَ ستلمَحيـنَ أحبابَكِ مُحلّقيـنَ، يَقطِفُونَ أطايِبَ الفَرح وإنْ تعثّرَ مَوسمُ القطَاف، وتأَهَّبي لموسِمِكِ القادم، فما أراهُ إلاّ حُلواً لم يشهدْ لهُ الجَنانُ مثيلاً، حتّى وإن تقطّعتْ أوتارُ قُرْبِكِ بمَنْ حولَكِ مكاناً لا روحاً، أوْ أكرهَـتْكِ الأيامُ على اخْتلاسِ الشَّوق مِن مَخابئ الكتْمَان !
أَيْ نفْسي، أنْصِتِـي !؟؟ يا مَن قهرَتني ذنوباً وكبّلتنِي بالدّمْع الحَارِق والغَفْلة، حتّى نَسيتُ أنّ الليلَ الذي يُطلّ عليّ -الآنَ - مُقمِراً، سيفقدُ نورَ عينيْـه تحتَ الثّرى، إلاّ إنْ تغمّدتْه وإيايَ رَحمةُ ربّي، حتّى نَسيتُ أنْ أطرقَ بَيْتَ الموتِ المُجاور لنا، أن أُجَالسُ طَيفَـهُ كيْ أتعلَّمَ مِنهُ بَعضَ ما أنسَاه، كيْ أسمعَ منـهُ عَن سفرِ الأروَاح، حينَ تُقطَفُ لتقطِـفَ إمّا السَّعَـادةَ أو الشّقَـاء !
فمَا أقربَكَ يا مَوتُ، ما أقربَـكَ !! وما أقْسَـى صَمْتَكَ وأنتَ تختلسُ النظرَ إليّ ما بينَ العَينِ والدّمْعَـة، ما بين الجَفْن والهُدْب، لاهثاً بينَ الصَّوْت والصَّمْت، تنتَظرُني تحتَ ضَوْء القمر، لتزُفَّني إليكَ ! ما أقرَبَك إليَّ منّي، وما أغرَبَ رسائلَكَ !
لكَمْ سارَعتْ رُوحي – وطَيفُ المَوتِ يتأبّطُ خطْـوي- إلى أرواحِ الأَحبّاب التي لمْ تُغادرْ فضاءَ الذاكرة، بلْ وقلبَـها ! وهي تحاول جَاهدةً أن تُقنِعَ الفَجرَ قبلَ انْبلاجـه بالتزامِ الهُدوء، بألاَّ يَصْرخَ شوقاً إليها، فيُفزِعَ الشّمْسَ التي لم يغمَضْ لَها شَـوقٌ !
وهَاهيَ رُوحي المُنتفِضَة بدَاخلي، تنتَفِضُ بهَا أرواح أخرى : حُبّ ربّي الذي ملأَ قلبي هديلاً, أمّي التي تَنتظرني على مقْعدِ شَـوِقٍ فقدَ عقلَـه, أبي الذي يُزهِرُ بي كالمَطـر, "هُو " وقد سرَقَتْنـا الأقْدارُ مِن أمَانينـا ومَاسَرقَتْ نَبضي, أحبابـي وقدْ زُرِعوا بي فجْراً, حِبْري الجَاثي عندَ قدمَيْ والِـدَيَّ, قلْبي الوَاقِف ببابِ اللّـه خائفاً مطمئنّاً مُستأنِساً, وأَنا بينَ ذلكَ كلّـه كعصفورٍ بلّلـهُ الشوقُ، فانتفضَ مرتعشاً، يَرنو إلى التحليق أبعدَ من ذاتـه، حيثُ الرّوحُ لا يحبسُها جسدٌ ولا طيفٌ ولا مَطـر، تحمِلُ أمتعَةَ الأشْوَاق التي أنهكتْ جناحيْـها، وهي ترنو إلى سُكنـى الأفق !
َ
سيّدي الطّيّـب مَأمـون، مَا كنتُ أستعذِبُ تشويقَكم حينَ اعتكَفَ بي الغيابُ، بلْ كان الشَّوقُ يحرسُ ثُغوري كيْ لاأفِرَّ من عينيْـه المُطبَقتَيْن عليها وعليّ، كيْ لاتتسرّبَ أنفاسي عبْرَ جدران الصمت، لكنّي رُغمَ ذلك كنتُ أتوزَّعُ – خفيةً - كحبّـات المَطر وهي تستعدّ للخروجِ من رحم الغَيمـة، أحلّقُ في ملكوتِ اللـه، مُعانِقةً الشجرَ الحزين، الوردَ الشاحبَ، أنفاسَ مَن أحبّهـمْ - حتّى وإنْ خضّبت المسافاتُ والأقدارُ خطوي بالمِلْح-، البحرَ المختبِئَ بمسامّي، اليمامَ وهو يسابقُ النجومَ الحَالمـة إلى الحُلم الذي لم تزرْهُ أوجاعُ الأرضِ قطُّ، وهوَ يسترقُ الشوقَ للقَمر الذي غادَرَ أبياتَ القصيدة، ليسكنَ معي حقائبَ الرحيل إلى اللـه، قبلَ أنْ يخرجَ الموتُ من جُحرِه، فيخطفَني ويخطفَـه خِلْسَةً، ولا زَاد مَعنا ولا غطَـاء، إلاَّ غيمَات حُبلى بالمَعاصي والأخْطـاء !!
سيدي، اعذُرني .. فقدْ ظننتُ أنّي لَن أنْسَى حِبْري قبلَ أنْ أدخُلَ أرضَ الوَرَق، لكنْ حينَ توقّفَ النّفَـسُ الأخيرُ بينَ القلبِ والرّوح، يمسَحُ عن جبينِهِ بعضي المتصبّبَ مِنْ بعضي، أدركتُ أنّ الرّوحَ كانتْ حِبْري، ذرَفَتْني على الـورقِ، تمامـاً كما تذرِفُ العيـنُ الأسْرَارَ !
أتُـراهـا تَهمِـسُ لي بِسَفَـــر .. !
الأحد : 22/ 04/2007