كسوف وشروق
إنه الخريف ، حيث الشجن يأبي الرحيل ، ومجموعة من الأصدقاء تأبي التفرق تجمعهم ابتسامة في ساحة الجامعة ، تتناثر الدعابات بينهم ، يعلو الضحك حينا ويخفت أحيانا أخري ، تدور مناقشاتهم حول المرأة ودورها في المجتمع ، يلقي أحدهم بعبارة مستفزة ثم ينتظر ببرو ردود باقي الفتيات عليه ، يتعالي ضجيجم وتزداد حدة دفاعهم ، ووسط هؤلاء كانت هي واقفة .
معهم وليست معهم ، ترقب نقاشا حميما أو تضيف تعليقا ظريفا، وعلي شفتيها دوما تلك الاختلاجة ، إنها بقايا عاصفة داخلية ، أو هي الزبد الذي يصل إلي الشاطيء بعد تحطم الأمواج عليه .
يسمح لنفسه بالتسلل عبر عينيها إلي داخلها ، وحقا يراها ؛ أمواج الحيرة يحم بعضها بعضا ، تبحث عن شيء ما ، لا تجده وسط الأصدقاء ، تتلفت يمينا ويسارا ، تنتظره وأعصابها تحترق والتساؤلات تطل جلية من عينيها ، هل ضل طريقه إليها ؟ هل فقدته إلي الأبد؟
تفزعها الفكرة فتهرب منها إلي مجموعة إصدقاءها ، تندمج معهم قليلا ، تنسي نفسها، تنسي معاناتها ، ولكن إلي متي ؟
تمر نسمة هواء لطيفة ، تبتسم بهدوء وفرح ، تغشاها السعادة ، تدعو الجميع للصمت واقتناص اللحظة ، تغلق عينيها ـ وآه وآه من إغلاق عينيها ، إنها المرة الأولي التي يري فيها العين المغلقة تفصح عما تعجز جميع لغات العالم عن الإفصاح به ـ يتسلل عبر ابتسامتها هذه المرة ، يري العاصفة قد هدأت ، يري دعوة منها للجميع كي يتذوق الجمال ، إن الحياة جميلة ولكنها ليست ككل الجميلات تعرض حسنها للرائح والغادي بل هي لؤلؤة لا يدرك جمالها إلا من يغوص في أعماق البحر ويحررها من صدفتها .
يعود ضجيج الأصدقاء ليخرجها من تلك الحالة ، تشعر بقليل من الألم ، لماذا عجز الجميع عن حياة تلك اللحظة ؟ هل فشلت في نقل إحساسها إليهم ؟
تترك الجميع في لهوهم وتصعد إلي أعلي نافذة في الكلية ، بدا لها الجميع في الأسفل كنقاط صغيرة ـ وبدت له كشمس منعها الكسوف من نقل ضوءها للناس ـ ترنو بصرها للأعلي وكأنها تدعو ذلك الذي ضل طريقه إليها أن يعود ، تمد بصرها إلي الأفق حيث الشمس علي وشك المغيب ، ينسيها الإحساس بالجمال كل الآلام ، ولكنها لحظات وتنتهي .
يخرجها رنين هاتفها النقال من تفكيرها ، إن أصدقاءها يدعونها للنزول إليهم ، هل كُتب عليها أن تهبط هي إليهم لا أن يصعدوا هم إليها ؟
لا تستطيع الإنتظار معهم كثيرا ، لا تطيق إحساسها بالفشل ، تذهب إلي منزلها وتقف أمام مرآتها ولكنها سرعان ما تهرب من نفسها إلي أوراقها ، تمسك بفرشاتها تحاول أن ترسم شيئا جميلا ، ولكنها تعجز .
إنه لم يأتها بعد ، لقد تركها تعاني الأمّرين ، ليته ما علمها قبل أن يتركها ، يمر الليل بطيئا كئيبا ، تترك الأوراق وتخرج إلي شرفتها ، ينعشها الليل الحزين بلسعته الباردة ، تتأمل الشجرة الواقفة أمام بيتها وقد ذبلت أوراقها ، يا تُري ما إحساسها وقد غادرتها العصافير وتركها الجميع وحيدة ؟
بدت لها الأوراق المتساقطة كدموع ذُرفت حزنا علي الفراق ، لم تدر إلا وفي يدها الأوراق والفرشاة ، لم تدر إلا وقد انتهت اللوحة ، لقد عاد إليها ، لقد نقلت جميع مشاعرها إلي الأوراق ولكن هل سيفهمها الآخرون ؟
ظل سؤالا يؤرقها طوال الليل حتي صعد النهار وذهبت إلي الجامعة ، اعطت لوحتها للإصدقاء ، نظر إليها البعض بلا مبالاة ، ورنا إليها البعض بإعجاب ، وتعالت صيحات الاستحسان ولكن الشكوك ساورتها بشأن نجاحها ؛ فأحدا لم يتأملها بصمت ، ولم يسبر أحدهم أغوارها ، ملأها العجز والقهر ،صعدت للأعلي ثانية ووقفت تتأمل السماء ، تاهت مع إحساسها ، قنعت أن تكون مجرد متذوقة للجمال وهي تتأمل الشمس في صراعها مع الضباب ، شعرت بركة خلفها فالتفتت ، وجدته أمامها يمد لها اللوحة ويبتسم ويقول " لقد انتهي الكسوف " .
وغمرتهما أشعة الشمس بعد انتصارها علي الضباب
تمت 23/2/2007