الصناعة والإنتاج والعمل هم للناس أم العكس؟
بين ذكريات الماضي الجميل، لم يكن هناك تعارض كبير بين رغبات الناس وحاجاتهم أو احتياجاتهم الحقيقية، إذ كان الفرد يرغب غالبا في شراء ما يحتاج إليه ويجده معروضا، كما يتلقى الخدمة الإدارية أو التعليمية أو التثقيفية أو الصحية وفق احتياجاته أيضا.. لكن بعد أن تقدمت الصناعة والخدمات الاجتماعية، وجاء الإعلام العربي ذو العاهات المستديمة بإعلاناته الحديثة حيث أنماط الحياة الجديدة والغير قويمة، خلق لدى أغلب الناس رغبات بعيدة كل البعد عن احتياجاتهم الحقيقية والتي أصبحت - في ظل ما يفد عليهم من قشور الحضارة الغربية - أمورا مهملة ومنسية.. وهكذا أصبح أكثر من نصف رغباتنا في الشراء لا علاقة له بحاجاتنا الحقيقية، وأصبحنا لا نجد الخدمة الاجتماعية المناسبة سواء الإدارية أو الصحية أو التعليمية، حيث أصبح أغلبنا يقرأ ما لا يزيده ثقافة أو توعية، أو يدرس في شعبة لا تناسب طموحاته المهنية في غياب التوجيه بل انعدامه، أو يشاهد أفلاما ويتابع برامج لا تتعرض أو بعيدة كل البعد عن مشكلاتنا الحقيقية، بينما حاجته الحقيقية هي في الحصول على ثقافة مفيدة من خلال برامج تخدم العقل بما تقدمه إليه من حقائق طبيعية أو علمية أو دينية، كما أصبح العديد منا يسافر إلى أماكن لا تفيد إلا في تمضية أوقات الفراغ، وأصبحت المقاهي والملاهي والفنادق السياحية بالاسم - وذات الغرض الربحي من خلال المتاجرة في زنا الأجساد وبيعها لذوي العملة الصعبة - تدشن كل وقت خدمة للربح والفائدة المحددة لصالح مقدم السلعة أو الخدمة دون أدنى اعتبار لما يحتاج إليه الناس.
ليتفاقم الأمر أكثر بأن أصبح الكثير من النساء يلبسن ملابس أصغر من حجم أجسادهن ويتزين بزينة لا تناسب ملامحهن (إذ استغنين نهائيا عن ستر مفاتن أنوثتهن وأصبحت رغبتهن منحصرة في الحصول على أدوات الزينة التي يعلن عنها المتنافسون ذوو النية الربحية كل ساعة. والأدهى أن يبدلن خلق الله بتقديم وجوههن للتجميل أو النفخ، فكان أن أصبحت وجوههن صلبة وحجرية الملامح ولا تظهر أي انطباع للضحك أو الحزن أو البكاء، كما صرن يجدن صعوبة في الاستحكام على إطباق شفاههن المتدلية أو المعوجة فلم تعد لهن طاقة للكلام حتى!!)، بينما حاجتهن الحقيقية هي في العناية بنضرة بشرتهن الطبيعية أو إخفاء آثار الزمن الكاشفة عنه شهادات الميلاد الأصلية من بعد الله.. لتصل رغبة التجميل إلى قلوب الكثير من الرجال أيضا فنجد الشيب منهم قد استعادوا مظهر الشباب بشكل ملفت للنظر بينما رغبتهم هي إخفاء ضعف رجولتهم التي ولت كما ولت أيام عمرهم.. بهذا كثرت موضات الملابس ومواصفات الجمال وكثر تغييرها كل موسم، حيث الإلحاح في الإعلان عنها لا يتم إلا لصالح المنتجين دون مراعاة صالح المستهلكة أو المستهلك المسكين.
فنخلص من بعد هذا إلى أن الصناعة والخدمات الاجتماعية في شتى الميادين كانت تقدم للأمم في بادئ الأمر فرصا عظيمة للرقي الإنتاجي والاستهلاكي، إذ كانت تمد الناس بحاجاتهم الحقيقية. فلما تحول رجال الصناعة من أفراد يخدمون الناس ويخدمون أنفسهم إلى أفراد يخدمون أنفسهم ويضرون الناس، لم يعد ازدهار الصناعة والخدمات الاجتماعية من المؤشرات الرئيسية للتقدم الحقيقي والبناء وفق ما نراه اليوم من سلبيات حضارية أكثر منها إيجابية..
ولعل أسباب الخلل في صناعة اليوم وخدماته الاجتماعية هي في المبادئ الجديدة التي صارت لأصحاب الصناعات أو الخدمات.. فبعد فكرة إنشاء المصنع أو الإدارة، يكون السؤال الوحيد: "ما هي حاجات الناس.. حتى ننتجها أو نقدمها لهم؟". وبعد أن تمر السنين، وتتدفق الأرباح على أصحاب الصناعة، وكذا أصحاب الخدمات الإدارية (من خلال أرباح الضرائب التي يجنونها على حساب الشعب المنكود)، ينتهي الأمر غالبا بأن يقتصر تفكير القائمين على المصنع أو الإدارة على الإجابة على السؤال الأوحد: "كيف نفرض على الناس ما ننتجه أو ما نقدمه لهم من خدمات؟"..
ولو سألنا أحد المديرين الصناعيين أو الإداريين اليوم عن مفهومه لما يسمونه الحجم الأمثل للإنتاج، سنجد أن إجابته تنحصر في أنه "الحجم الذي يجعله ينتج السلعة أو يقدم الخدمة بأقل تكلفة".
بهذا أصبحنا نرى التضخم في كل شيء دون حصول الفائدة الاجتماعية، اللهم إلا تلك الفائدة التي تصب في جيوب ذوي المصالح الكبرى.. وأقل مثال على هذا الأمر نجده في استيراد وسائل النقل القصيرة العمر وتصميم قطع الغيار السريعة التلف، والإعلان بعد ذلك عن النية غير المكتملة لحل مشكلات الانتقال عند الناس، لينتهي الأمر بأن تتضاعف مشكلات الانتقال، ومع ذلك يتم تخطيط مساحات المدن والطرقات بما يحقق التوسع في الإنتاج، وزيادة المكاسب، دون النظر إلى صالح الناس.. كما أن أكبر مثال نجده في مصانع الأسلحة والذخيرة والعتاد المستورد من الدول الغربية التي تبيعه للمسئولين أمام الله عنا بحجة تلبية حاجات الجيوش الوطنية، والدفاع على أمن الأمة وسلامتها، فينتهي الأمر بهذه الدول الغربية إلى تخطيط العداوات والخلافات، وخلق أسباب النزاع والخصام في دول العالم الثالث على الخصوص رغبة في زعزعة الأمن للتدخل السريع والاستحواذ على خيرات البلاد والعباد أو ضمان استهلاك أسلحتها على الأقل ليعاود المسئولون عنا أمام الله شراءها من جديد وبحجم أكبر..
فكان أن أصاب هذا الازدهار المقصود به صالح الناس وليس صالح المنتج انهيارا نلاحظه الآن في مختلف الصناعات والخدمات، بحيث نسي أغلب القائمين عليها دورهم الأصلي وهو خدمة الناس.. فالقائمون على الجامعات والمدارس، نسوا أنهم في الأصل رجال التعليم والتثقيف، والقائمون على المستشفيات نسوا أنهم في الأصل يخدمون صحة المواطنين، ورجال المواصلات نسوا أنهم في الأصل رجال النقل والانتقال، ورجال الإعلام الأعرج نسوا أنهم رجال الاتصال والتواصل وهكذا..
ولو أن رجال كل صناعة وكل خدمة (سواء اجتماعية أو إدارية أو اقتصادية أو مدنية أو دينية) نظروا إلى أنفسهم على أساس أنهم يخدمون الناس لا الصناعة أو الخدمة، لما حدث ما نراه الآن حولنا من أزمات وكوارث أضافت على ما بنا من أزمات فكانت القشة الأخيرة التي قسمت ظهر البعير.. ولو أنهم بدلوا مبدأ الربح النفسي مقابل الربح الجماعي، فسيغيرون سؤالهم الهدام: "كيف أجعل الناس مستهلكين للسلعة التي أنتجها أو الخدمة التي أقدمها؟" بـ : "كيف أطور مصنعي أو مشروعي أو عملي لأنتج السلعة أو أقدم الخدمة التي يحتاج إليها الناس احتياجا حقيقيا؟".. وهكذا إلى أن يصل الأمر إلى ذوي السلطة فينا فيغيرون هم أيضا من مبادئهم السلطوية الربحية الكثير..
بهذا فقط سنعود للأصل الذي يقول أن الصناعة والإنتاج والعمل هم من أجل الناس.. ولن يصلح الأمر لو عكسه أي أحد فيهم..