براعة التصوير ، واتساق البناء
في قصة: "حرص" للأديب القدير الدكتور: السمير العمري
بين رؤية الكاميرا ورؤيا الإنسان
أولا : القصة:
============
ثانيا: القراءة
ما أجملها من قصة حرضتني على المعايشة والتأمل استمتاعا بجمالها ، وتقديرا لها رؤيةً عميقةً، وأداةً موفقة.
مقدما أطيب التحيات لكل من سبقني إليها ولا سيما إشارة أخي الفاضل الأديب المرهف الأستاذ خليل
https://www.rabitat-alwaha.net/molta...182#post245182
التي كشفت عن سرٍّ من أهم الأسرار الكامنة في قلب القصة. ألا وهو "الحلم".
وقد استوقفني في قصة "حرص" تلك المقدرة الفنية البارعة تصويرا وبناءً في سياق هذه القصة المصوغةٍ بأسلوبٍ سردي متميز ، حيث نهض السرد بتصوير المشهد مشهد الطبيعة بين سكونٍ صامتٍ، وحركةٍ صاخبة ، وألوان متداخلة ، ينسج القاص هنا علاقة إنسانية فريدة بين الإنسان والطبيعة من جهة
ثم بين الإنسان والأداة من جهة أخرى أكثر عمقا وتطورا
تتجلى العلاقة الأولى منذ البداية :
"تَمَطَّى عَلَى الأَرِيكَةِ الوَثِيرَةِ يَفْركُ يَدَيهِ بِسَعَادَةٍ وَرِضَا. الدِّفْءُ المُنبَعِثُ مِنَ الموقَدِ المُقَابِلِ يَتَخَلَّلُ جَسَدَهُ لِيَزِيدَهُ اسْتِرْخَاء وَسَكِينةَ وَهُوَ يَتَأَمَّلُ مِنَ النَّافِذَةِ الكَبِيرَةِ رِقَّةَ هُطُولِ الثُّلُوجِ فِي دَعَةٍ وَهُدُوءٍ كَقطْنٍ نَدِيفٍ مِنْ يَدِ صَانِعٍ مَاهِرٍ".
حيث تتلاقى حالة استرخاء الإنسان وسكينته ، مع دعة هطول الثلوج في دعةٍ وهدوء، من خلال هذا السناريو المصور المعبر داخليا وخارجيا.
أما العلاقة الثانية فنطالعها حيث نطالع هذه الرؤية الحميمية بين الرجل والكاميرا التي تمو نموا دراميا بدءا من مرحلة التأمل والاكتشاف وما حاطهما من شعور بالسعادة تجلى في الابتسام.
"عَادَ لِيَتَفَحَّصَ الكَامِيرَا التِّي ابْتَاعَهَا مُنْذُ يَومَين مُتَأَمِّلاً تَارَةً شَكْلَهَا الأَنِيقِ ، وَمُسْتكْشِفَاً تَارَةً الجَدِيدَ مِنْ مِيزَاتِهَا العَدِيدَةِ مِمَّا لَمِّا يَصِلْ إِلَيهِ. ابْتَسَمَ مِنْ جَدِيدٍ سَعَادَةً بِهَذِهِ الكَامِيرَا".
ثم تنتقل إلى مرحلة من مراحل النمو الدرامي هي مرحلة الاحتفال الذي يطلعنا السرد على أن الطبيعة قد تضامنت مع صاحبنا حتى صارت تشاركه هذا الاحتفال العجيب المعبر عن احتفاله وعنايته بهذه الكاميرا بسبب مزاياها ، "خُصُوصَاً مِنْهَا مِيزَة ثَبَاتِ الصُّورَةِ فِي كُلِّ الظُرُوفِ. "
هذه الميزة التي تعبر عن إحساس إنساني راق هو الثقة التي أشار إليها القاص بالفعل"تستحق"، من دون ان يصرح بها تصريحا مباشرا. بل من خلال جملة شديدة الإيحاء
. لَمْ يَهْتَمَّ لِلمَبْلَغِ البَاهِظِ الذَي دَفَعَهُ ثَمَنَاً فَهِيَ تَسْتَحِقُ كَمَا أَقْنَعَ نَفْسَهُ بِمَا فِيهَا مِنْ خَصَائِصَ وَإِمْكَانِيَات مُذْهِلَةٍ هِيَ أَحْدَثُ مَا تَوَصَّلَتْ إِلَيهَا التقْنِيَةُ الرَّقمِيَّةُ.
في إشارة فنية ذكية إلى الحبكة القصصية هنا .
من دون إغفال البعد الإنساني الشعوري للعلاقة متجسدةً في الحلم بها قبل العثور عليها في امتداد زمني ماضٍ ،
"التِي طَالَمَا حَلِمَ بِهَا"
واستحضارا لدواعي شعورية تمتد امتدادا في الجهة الزمنية المقابلة فيما يُستقبل من الزمان، حيث ما يدخره لهذا المستقبل المَخُوف من ذكريات مؤنسة
" ذِكْرَى يَحْتَفِظُ بِهَا سَبَبَ أُنْسٍ لِشَيخُوخَتِهِ التِي يَعْلَمُ أَنَّهُ سيَكُونُ فِيهَا وَحِيدَا".
وهكذا يقوم الزمن بدوره في تصوير الجانب النفسي لهذه الصلة الحية، التي جسدت رهافة إحساس البطل، ومدى إدراكه للبعد الزمني .
كما يوفق القاص في اختيار المكان ، متسقا مع المشهد الكلي للقصة:
" بَيْتُهُ الخَشَبِيِّ الصَّغِيرِ المُحَاطِ بِأَشْجَارٍ بَاسِقَةٍ أَصَرَّتْ عَلَى الاحْتِفَاظِ بِأوْرَاقِهَا الخَضْرَاء وَإِنْ خَالَطَهَا البَيَاضُ كَانَ كُلَّ عَالَمِهِ الصَّامِتِ إِلا مِنْ بَعْضِ مَرَّاتٍ يَشْتَاقُ فِيهَا لِلصَّخَبِ وَالحَرَكةِ."
حيث التقاء المكان الخاص بالبيئة العامة في تناسب جلي بين وصف البيت بأنه خشبي ، وصورة الأشجار تحيط به .
وتأمل معي وصف هذه الأشجار بأنها باسقة ربما في إشارة إلى شخصية البطل الذي نلمح من ملامحه الضمنية هنا من سياق السرد القصصي ما يتمتع به من سمو ،
ثم تأمل معي إصرار الأشجار " عَلَى الاحْتِفَاظِ بِأوْرَاقِهَا الخَضْرَاء وَإِنْ خَالَطَهَا البَيَاضُ"
وكأنه يصور مدى ما تتميز به من وفاء كأنه المعادل الموضوعي لوفاء آخر هو وفاء صاحبنا مع كاميراه .
ولكن هذا الوفاء يقابل في الطبيعة بخداع انتبه إليه حين:
" أَعَادَ نَظَرَهُ إِلَى حَيثُ النَافِذَةِ يَتَأَمَّلُ مَا تَحِيكُ ( : تحوك) يَدُ السَّمَاءِ مِنْ نَسِيجٍ مُهَفَهَفٍ تَكْسُو بِهِ الأَرْضَ ثَوبَاً أَبْيَضَ مِنَ النَّقَاءِ يُخْفِي تَحْتَهُ كُلَّ أَدْرَانِهَا وَعَورَاتِهَا.
بما يبين أن بطلنا على إدراكٍ بما تحت هذه الماهر الخلابة الخادعة لكنه على الرغم من ذلك نراه وقد:
"شَعَرَ بِرَغْبَةٍ عَارِمَةٍ فِي أَنْ يَحْتَفِلَ بِهَذَا الجَّوِ الثَّلْجِيِّ الفَاتِنِ"
حتى لا يحرم نفسه من جمال الظاهر (نقاء البياض الخادع) رغم معرفته بما تحته من عوار.
كأنه يستجيب لنداء أبي تمامٍ الحكيم:
فَأَتَوا كَريمَ الخيمِ مِثلَكَ صافِحًا عَن ذِكرِ أَحقادٍ مَضَت وَضِبابِ فَاِضمُم أَقاصِيَهُم إِلَيكَ فَإِنَّهُ لا يَزخَرُ الوادي بِغَيرِ شِعابِ
وفي هذا الجو تبدأ مرحلة جديدة هي مرحلة الاختبار اختبار الثقة والكفاءة لكنه ليس مجرد اختبارٍ رسمي بل هو اختبار ود غير منبت الصلة عن المشاعر المتدفقة سرورا
". قَرَّرَ بِالفِعلِ أَنْ يَخْتَبِرَهَا في مثل هذا الطَّقْسِ البَارِدَ ، وَأَنْ يُسْعِدَ نَفْسَهُ بِرِيَاضَتِهِ المُفَضَّلَةِ يُفْرِغُ بِهَا دَفقَاتِ السُّرُورِ التِي تَنْتَابُهُ وَتَستَعْمِرَ مَشَاعِرَهُ."
وقد أجاد أديبنا في توظيف أدواته الفنية توظيفا دراميا راقيا ،
فاستخدم المفارقة بين الحركة والسكون على مستوى الصوت ، والصورة
وصراع الدفء والبرودة على مستوى الإحساس الخارجي والشعور الداخلي.
و حوار الخضرة والبياض على مستوى اللون
وتأمل معي كيف أن قاصنا المبدع لم يقف عند حدود إيحاءات اللون القياسية المعهودة بل نراه هنا يتلاعب بدلالة البياض فيربطه بالخداع كما سنرى في سياق القصة، ثم يقرنه بالمرض كما سنكتشف في ختامها.
ولاختيار الكاميرا هنا رمزا في القصة دلالة ثرية شجية ، بما تدل عليه من عينٍ مساعدة للرجل يحتاجه رغم ما وهبه الله سبحانه من عين مبصرة بصيرة ، ومستودعٍ للأسرار والذكريات لبطلنا الفارس الحالم الوفي الذي
" كَانَ كُلُّ هَمِّهِ وَقْتَئِذٍ أَنْ يُحَافِظَ عَلَى الكَامِيرَا مِنَ البَلَلِ فَتَتَعَطَّلَ ، أَوِ السُّقُوطِ مِنْ يَدِهِ فَتَنْكَسِرَ. رَفَعَ يَدَهُ بِهَا أَكْثَر كُلَّمَا غَاصَ أَكْثَر مُشْفِقَاً عَلَيهَا يَنْظُرُ إِلَيهَا بِحِرْصٍ وَانْتِبَاهٍ.
وما أجمله وأجله من حرص
هو ليس حرص البخل على مادية الكاميرا الرمز
بل هو حرص النبل ، وإشفاق الإخلاص ، وانتباه الوفاء ***
فإن لم تكن تستحق في ذاتها ، فلما وراءها في قلب صاحبنا من معانٍ ودلالات. و قيمٍ جميلة نبيلة ، ما زال يحرص ألا تضيع في جليد الحياة ، وضباب الغربة ، ومكائد النفوس : مثل معاني :
الحلم
الرؤية
الذكرى
الأمل
ومن هنا يتبين كم كان حرص صاحبنا جميلا ونبيلا وفي مثل هذا الحرص الكريم قال رسولنا صلى الله عليه وسلم لصاحبه :"يا أبا بكرة، زادك الله حرصا" [ حين أدرك الإمامَ راكعا، فتحرم وركع قبل أن يصل إلى الصف ثم مشى إلى الصف، خوفا من فوت الركوع] رواه أحمد في مسنده وصحيح البخاري وأبو داود والنسائي عن أبي بكرة رضي الله عنه.
==
وتبقى بعض الملحوظات اليسيرة:
*إِمْكَانِيَات = إمكانات
*مَا تَحِيكُ يَدُ السَّمَاءِ مِنْ نَسِيجٍ : لعلها: "تحوك"
لأنها من "حاكَ الثوب يَحوكُهُ حَوْكاً وحِيَاكَةً: نسجَه فهو حائِكٌ"( كما في : الصحاح مادة (ح و ك)
*وَأَنْ يَحْتَفِيَ بِكَامِيرَتِهِ الجَدِيدَةِ : الأنسب كاميراه ؛ لأنها كما وردت في القصة "كاميرا" بالألف.
.
أخانا السامق وأديبنا الشاهق
ما أجمل ما صورت هنا وعبرت لنا
ومددت لأعيننا من آفاق فنية
ومنحت قلوبنا من مساحات إنسانية للتأمل والاعتبار
ودمت وواحتنا الظليلة بكل الخير والسعادة والوفاء
أخوك المحب:
مصطفى