لم يخطر ببالي أبدً وأنا أسمع إسمي أنه عليَ أن أجتاز حواجز الألم إلى نهايته ، إلى طعم الصبر المُر والحلو معاً , الممرات الضيقة لم تَسَع أملي في الله ، فاض عني أملي إلى ابتسامة يعلم الله سبحانه وتعالى إلى أي مدى ساهمت في أن تستقر خفقات قلبه وهو يسرع الخُطى إلى المجهول ، قدرك معي فليكن الصبر سلاحنا معاً , لم أستطع في غمرة الأحداث أن أنظر إلى عينيه الرماديتين ، لكنني أحسست بكفه الحانية تربت على كتفي برفق بالغ وكلمات أراد لها أن تكون البلسم, وبنفس الطريقة الحلوة التي كان يناديني بها تمتم :لا تحزني قُرَة عيني ، أنا معكِ ولن أترككِ أبداً حتى أطمئن عليك , أي حُب تخفيه في شرايين طيبتك وحنانك الإنساني الكبير ....؟؟
مازلت أتابع خطواتك يمينا وشمالا والأسِرَة البيضاء بدأت تَلَوِح لي بإشارات تنبيه أن اقتربت من مكان الاختبار , اختبار صبري وجلدي, بعد لحظات سيفارقني أبي وسأبقى بمفردي أقَلِب الذكريات من مُخَيلتي ، تارة أبكي و أخرى أضحك وتبدأ الحكاية التي لا تنتهي أبداً إلا بشخصية أخرى انبثقت من هنا ...
أخذت الطبيبة تشرح لي بقسوة مُتعَمَدَة الخطوات الأولى في العلاج , هكذا بَدَت لي أنها قاسية , ملامحها جامدة لا تُعَبِر عن أي تعاطُف أو شفقة , تحاول جاهدة أن توصل لي أن علي أن أواجه المصاعب بعيدا عن أبي ...
كان يراقِب انفعالاتي ويعلم الله كم عانيت حينها في كتم مخاوفي ، كنت أرتجف وأجاهد نفسي أن أحافِظ على توازني بداخلي صوت متوجس يردد :
لكِ أن ترفضي هذا العناء وتعودي إلى أحضان الأهل والأحباب , وبعفوية كانت خطواتي تقترب من خَوْض غمار تجربة مازالت إلى الآن تؤثر في وتُوَجهني وتٌغَيْر أسلوبي في الحياة , تُعَلمني أن أرى وأسمع شكوى المُتألمين والمهمومين ..
لن أعود وسأمضي في طريقي وسيُثمر الصبر ثماراً حلوة حينما يهبني الله حياة جديدة فيها الشفاء والعافية .............
تمددت على سريري وانطلق بصري خارج الغرفة ، إلى حيث السماء والناس والهواء والشجر تنفست بعُمق هواء نقياً تغلغل إلى سويداء قلبي فمنحني بعضا من السكينة ..
وطغت على حواسي أُمنيَة هربتُ منها مَرات عديدة آن لها أن تأسرني ، ضُمني أبي لعل الخوف والرُعب الذي يكتنف طفلتك المدللة يختفي ، ضُمني وأعطني بعضاً أو كل حنانك ، لا تستبقى شيئاً , أفرِغ عليَ من الحب قطرات ندى كي تغمر روحي فللبُعد أنين ، للشوق حنين ، وللصبر حر نار ، أحسها تلتهم قلبي الصغير , مسافات طويلة ستفصلنا عن بعضنا, وكنا معا قد اتفقنا أن نجعل لِرشفة الشاي مهرجاناً يومي ننتظره ونستعِدَّ له وكأنه العيد , كلانا أبي وجد ضالته في الآخر يُتمَك رويته بحبي الكبير وانكساري جبرته بحنانك الوارف , ظللتني دوماً به وجعلتني أستجمع القوة من براثين الضعف والانهيار, الشلل أعلم أبي أنني أكرهه وأمقُته كما أمقُت البُعد أو أكثر ، لكن كما عَلَمتَني الإيمان يصنع المعجزات فقد نما بيني وبينه حب عجيب إذ كلما كبُر علي أني أعجز عن المشي تذكرت كلماتك النورانية إذا أحَب الله قوما ابتلاهم
نزلت برداً وسلاماً على فؤادي المكلوم , وأي شيء أروع وأجمل من حب الله , هاأنا ذا أنعم بحُبه وليأخذ مني الشلل كما يُحب الله ويرضى فقط رجائي أن يهب لي يقينا لا يتزعزع وإيمانا لا يفتر , الآن أبي أُدرِك نِعمة أن يكون لك إنسان رحيم يُحبك ويُحيطك برعايته وعطفه الكبير , قلت لي مرة لن أكون سعيداً حتى أراكِ أمامي تركضين بدون عائق ، لُذتَ بالصمت للحظات ثم أردفتَ : سيستجيب الله لي ففي كل سجدة أدعوه أن يمنحكِ الصحة والعافية , أنتَ نعمة كبيرة ، علي ألا أكُف عن أن أحمِد الله عليها , أن أُكثِرمن الاستغفار لأنني مرات كثيرة ظننت أنني محرومة من النِعَم ، يسبح النظر بعيدا في أفاق بعيدة ، الشجر يتراقص يُمنَة مرة وشمالاً أخرى وكأن الشوق برحه فلا طاب له مكانً ولا زماناً ، مثلي يشتكي الغُربة والألم يبُث مولاه أحزانه عله يروي عطشه بسلسبيل رضاه ....
حركة دائبة لا تتوقف في ممرات المستشفى ، صغاراً مثل الورد تصرخ من شدة الألم والخوف , بدأت أجد ما يشغلني فهذا يسأل عن أُمه وهذه تبكي خائفة من المُمرضة وهذا يؤلمه الجُرح الغائر ، أحاول أن أرسم البسمة على شفاههم الصغيرة الحلوة ، ألعب معهم وأسَليهم ، وأحكي لهم قصصاً وحكايات ليطمئن الخافق في الأعماق ولا أتركهم إلا والنوم يُداعب عيونهم بعد عناء يوم طويل ، فأعود لسريري مُنْهَكَةً ، لكن روحي تُحَلِق في عالمهم الطاهر والنقي أبي تعلمت هنا أن أكون إنساناً يتألم ، من أجل الآخرين ويفرح من أجلهم وتتلاشى همومه وأحزانه بابتسامة أمل يرسمها على الملامح الصغيرة.......
هل أستطيع أن أُعَبِر عن أحلام اليقظة التي أنعشت روحي حينئذ !!وكانت بحق طوق نجاة من بحر اليأس الذي غُصت فيه ؟ إنه لشيء أقرب إلى المُحال أن تطلب من الكلمات أن تصف شيئاً حياً يسكُن أعماق وجدانك ، يوجهك رغماً عنك إلى عالم غير مرئي , كنت أناجي الله في كل ليلة وتظهر لي في ظلمات الليلة طفلة أجبَرها الشلل على أن تظل حبيسة الجُدران ، كانت ذات مساء تبتهِل إلى الله وتُلِح عليه في الدعاء بأن يَمُن عليها بالشفاء ، ومن فوق سبع سموات أجاب الله لها الدعاء ، وهي الطفلة التي قد لا يُعيرها الآخرون أي اهتمام , كنت أنا المستغيثة برحمة ربها , فأجهشت بالبكاء وأنا أرى نفسي وقد غمرني الله بعظيم المِنَن والنِعَم فهو سبحانه الكريم الذي لا يرُد من دعاه , تساقطت دموعي غزيرة على وسادتي , وسمع الليل مناجاتي وحكي عني شوقي ولهفتي إلى كرم مولاي عليَ من جديد ..........
ترقص الأماني على أشعة الشمس فتلفح ذاكرتي بحرِّ ولعها بأن تسرع الأيام والليالي إلى حيث أتمنى ,
أبي الغالي لو أبصرتني الآن ما تَعَرفت عليً فقد تَغَيَر كل شيء ، كان شعري الذي تمتع طويلا بلمستك الحانية هو أول الضحايا ، أنكرت وجهي في المرآة ولكنني ابتسمت مُنتصرة على الألم ، وتسابقت آلاف الأفكار إلى ذهني بصور لها ألوان شتى ، ممزوجة بالفرح تارة والحزن تارة أخرى ، واللهفة والشوق إلى طفلة تسكنني .....
محاولة الهرب روادتني كثيرة غير أن خطاي دوما كانت تتحرك عكس تفكيري , آهات المرضى اخترقت جدار الصمت بداخلي وجعلتني أفكر في فلسفة الألم, ماهو ؟؟ ..........
عندما أعجزعن الجواب أعود لذاتي أفتش عن الخلل , إذ كل مافي الكون بدون شك له حكمة بليغة .........
كلما جاء دوري في الإحساس بالألم وتجرع كأس الصبر بمرارته اقتربت من مغزى الألم, ربما هو بوتقة ننصهر فيها ونعاد من جديد أكثر انسانية وحبا وحنانا متدفقا لكل المخلوقات , وصلة وطيدة بين العبد وربه , متى أحسنّا فهم ذواتنا في لحظات الألم استوعبنا معنى الوجود ....