الكوابيس تأتي في حزيران
رواية
بقلم : د . محمد أيوب
القسم الأول من الفصل الثاني
ـ 2 ـ
كانوا حوالي أربعين معلماً، المدرسة خالية من الطالبات ، وقد أعدت الغرف لاستقبالهم، المعلمون المصريون قدموا إلى مركز التدريب من مختلف محافظات الإقليم الجنوبي من الجمهورية العربية المتحدة ، تم التعارف بينهم بسرعة وكأنهم أصدقاء التأم شملهم من جديد، دارت الأحاديث بينهم ، كانت لدى المعلمين المصريين أسئلة حائرة عن فلسطين ، تشوق إلى المعرفة ..معرفة كل شيء عن القضية من أهل القضية، وبعد أن توطدت علاقاته بمجموعة من هؤلاء المعلمين المصريين سأله النقيب احتياط سمير حسين سؤالا ظن أنه سيجرح مشاعره، مهد لسؤاله بقوله :
ـ أنا عايز أسألك سؤال بس بدون زعل !
ابتسم : خد راحتك.
استطرد سمير متحرجاً : انتو بعتم أرضكم ليه ؟!
اتسعت ابتسامته: إذا لم أنس .. أعتقد أنك تحمل ليسانس في التاريخ ،وأعتقد أن من درس التاريخ ودرّسه يجب أن يعرف الحقيقة أكثر من الآخرين .
ـ إحنا قلنا ما فيش فينا من زعل .
ـ لم أزعل، ولكني أشعر بالألم لأن من نحبهم يقبلون ما يدس ضدنا دون تمحيص ، الحقيقة يا عزيزي أن اليهود ، وحتى تاريخ 15 مايو سنة 1948 لم يكونوا يملكون من أرض فلسطين أكثر من اثنين ونصف بالمائة، وقد امتلكوا هذه الاثنين والنصف عن طريق الإنجليز من الأراضي الأميرية، وكذلك عن طريق بعض أغنياء الإقطاعيين من غير الفلسطينيين أمثال عائلة سرسق ، وهم يشبهون الباشاوات والبكوات عندكم. الحقيقة يا صديقي أن الفقراء لم يبيعوا شبراً واحداً من الأرض لليهود ، وإن كان الفقراء قد أخطئوا فإن خطأهم هو أنهم لم يسجلوا أراضيهم في دائرة تسجيل الأراضي (الطابو )،وهذا أمر فرض عليهم فرضاً بسبب الضرائب الباهظة والإجراءات المعقدة التي تواكب عملية تسجيل الأرض.
***
أجرى الأطباء الفحوص الطبية اللازمة بعد أن خلعوا ملابسهم ولم يبق عليهم سوى اللباس الداخلي الذي يستر العورة، تحسس الطبيب خصيتيه بيده اليمنى ، ثم كتب شيئاً باللغة الإنجليزية، طلب منهم الأطباء أن يلبسوا ملابسهم ، ثم توجهوا إلى قاعة المحاضرات ، قام أحد الضباط المسئولين عن التدريب بإلقاء محاضرة مطولة عن التدريبات المتوقعة وأن الهدف من هذه الدورة تخريج معلم فتوة ذي كفاءة عالية، لأن التربية العسكرية ستكون مادة أساسية في مدارس الجمهورية العربية المتحدة وفلسطين ، بعد ذلك توجهوا إلى الطابور وبدأ الشاويش المدرب يشرح لهم طريقة المشي وضرورة البدء بالقدم اليمنى على أن ترافقها اليد اليسرى في حركتها، طلب منهم الشاويش الانتشار في ساحة المدرسة ، نادى بأعلى صوته :
ـ طابور اجمع .
***
في الساعة الخامسة من صباح اليوم التالي ، انطلقت صفارة الشاويش عبد الحميد، قفز من فراشه كالملسوع، كاد صوت الصفارة يثقب طبلة أذنه، صاح الشاويش :
ـ يللا يا إخواننا .. اصح أنت وهو..
غسل وجهه على عجل، لبس ملابسه العسكرية تمنطق بالحزام (القايش)، انتعل حذاءه العسكري والجيتر الأبيض، جرى بسرعة ليأخذ مكانه في الطابور.. صاح الشاويش :
ـ فصيلة صفا .. فصيلة انتباه .. صفا .. انتباه .. صفا ..انتباه .. لليمين در .. لليسار در .. على اليمين حزه.. حازي أنت وهو.. إلى الأمام معتاداً مارش ..
مد قدمه اليمنى بثقة ترافقها يده اليسرى.. امتد ساعده مشدوداً متوتراً ، كانت لديه فكرة جيدة عن المشي وعن حمل السلاح واستعماله .. كان دليل اليمين في طوابير التدريب الشعبي، وكان الطابور يضبط مشيته على إيقاع قدميه .. دق الأرض بقدميه.. كان شاباً يافعاً طويلاً نحيلاً ممشوق القوام، قمحي البشرة، شرقي الملامح، عيناه عسليتان، شعره أسود ناعم طويل، تتحرك خصلاته مع نسمات الصبح الباردة، وعلى طريق القاهرة الإسكندرية الصحراوي انطلق الطابور يدق الأرض بثقة، والشاويش يطلب المزيد :
ـ أشد .. طلع المية من الأرض .
وبعد مدة بدت طويلة نسبياً ، غطى العرق أجسادهم ، وبعد أن ازدادت أشعة الشمس اشتعالاً، جاءهم صوت الشاويش:
ـ مكانك قف.. لليمين در .. لليسار در .. خلفاً در .. للأمام معتاداً مارش.
استمر الطابور أكثر من ساعة، عاد المتدربون بعدها إلى مركز التدريب، كان موعد الإفطار قد حان، تحلق الشبان حول الموائد في قاعة الطعام.. تبخر الوقت بسرعة ، صفارة الشاويش تطاردهم :
ـ طابور اجمع..
المتدربون يقفزون من أماكنهم، الطابور ينتظم بسرعة ، الجميع متشوقون إلى المزيد من التدريب، وزعت عليهم بنادق من طراز 303 ، تحسس كل منهم بندقيته بشوق ومحبة ، لطالما اشتاق إلى السلاح شوقه إلى فرحة العمر، صوت الشاويش يرن في أذنيه: صفا .. انتباه .. صفا .. انتباه.. كتفاً سلاح .. جنباً سلاح .. كتفا سلاح .
قدم لهم الشاويش شرحا تفصيلياً عن الالتحام بالسلاح الأبيض وكيفية الطعن بالسونكي، إطلاق صرخة النصر لإرباك العدو وإدخال الرعب إلى قلبه.. جرى الشاويش مصوباً السونكي نحو الشاخص.. السونكي تلمع ، انعكست عنها أشعة الشمس سهام حماسة وتحفز، صرخ الشاويش بأعلى صوته: هــ ......... ــا طويلة مرعبة، طعن الشاخص بالسونكي وأدار النصل يمينا ويسارا وسحب السونكي بسرعة كبيرة .
بدأ كل منهم يقلد حركات الشاويش.. الجري بسرعة .. صرخة النصر المرعبة.. السونكيات تلمع تحت أشعة شمس الصيف الحارقة.. والشاويش يصيح :
ـ ايه الصوت البناتي ده .. أجمد من كده .. عاوزك تسيب ركب العدو، تخليه يحس انك وحش حيفترسه، يللا يا رجالة .. فين الوحوش ؟ أطلق صيحة النصر.. مرعبة كانت .. كأنه يريد أن يدفع خوفا مفاجئا ألم به ، مر في ذهنه خاطر مرعب.. ماذا لو تحول هذا الشاخص إنسانا حقيقيا بيده سونكي تلمع .. أيهما سيصل إلى عدوه قبل الآخر.. يقولون أن اليهودي يخشى المواجهة بالسلاح الأبيض .. لن أعطيه الفرصة لأن يكون الأسبق إلى توجيه الطعنة .. أسرع أكثر ..شد خطواته .. أطلق صيحة أشد ..وبكل قوته طعن ..يا إلهي .. هل قتلته ؟ هل أصبحت قاتلا؟ أنا الذي لم أذبح فرخة في حياتي .. أتحول إلى قاتل .. لكن القتل في ميادين القتال يختلف عن القتل في الظروف العادية.. القتل بدم بارد جبن ونذالة ، في الحرب، الأمر يختلف .. صوت الشاويش ينبعث من واد سحيق:
ـ دور السونكي يا أفندي .. اسحب بسرعة.. اصرخ .. أعلى.. فين الرجالة ؟
***
الساعة الثانية بعد الظهر .. تسربت فترة الراحة بسرعة ، لم يكادوا يتناولون طعام الغداء، الصفارة اللعينة تلاحقهم، تقتنص لحظات الراحة اللذيذة ، يطاردهم الشاويش بصفارته، طابور أنت وهو .. اجمع بسرعة .. رجالة ورق ! استمرت التدريبات حتى الخامسة ، شعر بالتعب ، صوت الشاويش يأتيه من مكان سحيق ، كأنه في حلم : انصراف يا عسكري أنت وهو .
حان وقت الراحة إذن، تجمع المتدربون في حلقات ، الابتسامات تعلو الشفاه رغم تعب ذلك النهار ، كانوا منهكي القوى، ومع ذلك تماسكوا، اقتربوا من بعضهم، كانوا يودون التعرف على بعضهم أكثر .. أكثر من مجرد معرفة الأسماء، وبعد تناول طعام العشاء طابت الأحاديث وطاب السهر.. كيف سيقضون أوقات ما بعد التدريب ؟ هل سيظلون أسرى معسكر التدريب كما تقول الأوامر.. محظور عليهم الخروج من المعسكر إلا بعد الساعة الثانية من بعد ظهر كل يوم خميس .. يحق لكل متدرب أن يبيت خارج المعسكر.. أن يقضي بقية يوم الخميس وطيلة يوم الجمعة في الخارج ، هل يعقل ذلك ؟! لابد من الخروج .. لابد من تذوق طعم القاهرة والتعرف عليها.. دور السينما .. المسارح .. حديقة الحيوان، والأهم من ذلك كله ، التعرف عن قرب على الشعب المصري الطيب، كان يشعر بحنين خاص نحو مصر ، مع أنه لم يشرب من ماء النيل من قبل، لكنه يحس أن ماء النيل يجري في عروقه منذ قرون بعيدة .. تذكر الأستاذ حسين مدرس العلوم، المصري الجنسية، في مدرسة خان يونس الثانوية.. تذكر حديثه عن ماء النيل .. عن شرب الفلاحين منه مباشرة ، عن الأمراض التي تسببها المياه الملوثة.. لابد من رؤية مصر عن قرب .. لابد من رؤيتها على حقيقتها عارية دون رتوش، لابد من خرق القانون دون الوقوع تحت طائلته، اقترح أحد المتدربين أن يتفقوا مع العم نوح الغفير، كان المكلف بتطبيق الأوامر وعدم الخروج من المعسكر أو الدخول إليه دون تصريح، نعطيه عشرة صاغ وبعض السجاير فيغض الطرف عنا ، فكرة معقولة، ظهرت أوراق اللعب فجأة فانخرط ضمن مجموعة من الزملاء المصريين الذين أصبحوا أصدقاء حميمين فيما بعد ، فتح قلبه لهم وفتحوا قلوبهم، كانت مصر في القلب وكان عبد الناصر بؤبؤ العين ، كان معبوده وحبيب قلبه ، البطل المعصوم إلى حد القداسة .. باسم الأمة رئيس الجمهورية يعلن تأميم شركة قناة السويس شركة مساهمة مصرية.. كنا نار أكلت جيوشهم نار تقول هل من مزيد ، انتصرنا ولسه عارهم ذكرى في تراب بور سعيد، هل ستستمر هذه النار في الاشتعال ؟ أم أنها ستنطفئ وينحسر بعد انطفائها ذلك المد القومي العربي، هل ستظل شعلة عبد الناصر مضيئة تنير له الطريق، كاد يضرب صديقه المصري عندما أطلق شتيمة قاسية ضد جمال عبد الناصر، هذه الهالة المقدسة ، هناك من يحاول خدشها وتشويهها، فوجئ وائل ، صديقه المصري، من ثورته، حاول أن يشرح الموقف .. عبد الناصر ده ، اعتقل جميع أفراد أسرتي صغارا وكبارا ، نساء ورجالا، أنتم الفلسطينيون لم تروا إلا الوجه المشرق لعبد الناصر، هدأت ثورته قليلا:
ـ لابد أنكم فعلتم ما تستحقون عليه السجن ، عبد الناصر إنسان ، وهو يعيش مرحلة بناء الوطن ، بناء مجتمع الكفاية والعدل، وبالتالي لابد من وقوع أخطاء.
ـ وهل فعل الأطفال شيئا؟
ـ إنك تبالغ دون شك ! ولو فعل ذلك فلا بد أن لديه من الأسباب ما جعله يفعل ذلك.
حدثه عن اللواء يوسف صديق عضو مجلس قيادة الثورة، وكيف أبعد عن مصر لأنه عارض تدخل السفير الأمريكي في شؤون مصر الداخلية، وكيف اعتقل عبد الناصر الشيوعيين، قاطعه قائلا:
ـ ولكنه اعتقل الإخوان المسلمين أيضا، أعتقد أنك لا تستطيع إنكار ذلك.
ابتسم صديقه المصري: لا أستطيع إقناع عاشق لعبد الناصر بسلبيات عبد الناصر. غلبتني في لعب الورق، أما النقاش فلن ينتهي ، لابد من الحوار ، بالحوار فقط يمكن الوصول إلى بر الأمان، لابد من وجود حرية الرأي، الرأي والرأي الآخر يكملان بناء المجتمع على أسس سليمة ، دعنا من الحوار الآن ، فلا بد من النوم، اقترب الفجر ولا بد أن صفارة الشاويش عبد الحميد ستلاحقنا.
ـ فعلا لابد من النوم ولو لساعة واحدة.
كان النوم لذيذا ، له مذاق آخر ، لكن لذته لم تطل ، فر النوم من العيون الغافية مذعورا هربا من صفارة الشاويش عبد الحميد، استيقظوا على عجل، لبسوا ملابسهم الخاكية بسرعة البرق، انتظم الطابور في لمح البصر، صوت الشاويش عبد الحميد يلعلع :
ـ صفا .. انتباه.. صفا انتباه.. كتفا سلاح .. جنبا سلاح .. إلى الأمام معتادا مارش.
وتتوالى الأوامر والتدريبات، تتخللها فترات راحة قصيرة، كانت التدريبات متعبة، لكن التعب مع وجود الرغبة يكون له طعم آخر.
***