دارت عيناي فى أنحاء الغرفة حتى سقطت على الورقة التى كنت أبحث عنها.. كانت ملقاة على الأرض بإهمال.. ووجهها كقتيل تحجرت عيناه على سقف الحجرة.. كان يحلم قبل أن يموت بأن ينطلق إلى هذا العالم الرحب الجميل.. ففرد جناحيه ورفع جسده لأعلى.. ليرى بعيون أوهامه أن السماء تفتح له ذراعيها.. فطار بأعظم قوة فى وجدانه.. فارتضدم بالجدار.. وسقط وقد انهارت أحلامه كلها لحظة الموت المفاجئ.
قمت متثاقلا إلى الورقة كانت بعيده..كأنها فى آخر نقطة فى الحياة.. كما كان الطريق طويلا إلى عينيها الآسرتين.. كنت أشعل نيراني كل يوم فى صحراء الحياة فتتجمع الفراشات بكثرة متناهية لتحترق.. إلا هذه.. لم تكن سوى فراشة مضيئة بذاتها.. واحدة من تلك التى لا تحتاج للاحتراق.. فطريقها واضح المعالم.. فكرت كثيرا وسهرت الليالي وأصبحت هذه بالذات شغلي الشاغل فى الحياة.. كيف أصل إليها؟ كيف أجعلها تأتى إلى بجناحيها الرقيقين لتلقى بنفسها فى حر اشتياقي الملتهب شوقا وغواية؟ غيرت خطتي التى استخدمتها مرات ومرات للإيقاع بها.. كان على أن تخبو ناري حتى تراها ضياءا فتغريها بالسير إلى نفس الرحلة المتكررة.
حين التفت ناحيتها.. سرى فى مشاعري إحساس مرير لم أتذوقه من قبل.. أهو شعور بالندم؟ كان جسدها كله يختلج بارتعاشات وهي تطلق همهمات غير مفهومة.. نظرت إليها نظرة يشوبها الخوف من القادم.. لأول مرة ينتابني هذا الإحساس.. تساءلت هل هذه نهاية طبيعية لكل هذا العناء؟ وضعت يدي على رأسي.. الصداع يكاد يفتك بى.. عاد صوتها يصرخ فى أذني : أرجوك اتركني.. ليس الليلة.. أنا الآن زوجتك كتبت لك كل حرف فى الورقة بدمى حتى تطمئن أننى سأكون لك وحدك.. ولكن ليس هكذا.. لا تجعل دمائي تلطخ الحياة.. لا أحب أن تكون ليلتي الأولى بهذه الطريقة.. أرجوك.. ارتمت على يدي تقبلها أن أتركها الليلة.. كان ضياء الطريق الذى أنرته لها بكلمات الحب قد وصل إلى ذروة التوهج ولم أعد أطيق صبرا.. تحول إلى نار حارقة لم أسمع معها سوى صوت واحد بداخلي.. صوت شهوتي المجنون المستعر.. سقطت الورقة.. التى كتبتها بدمائها.. (أمام الله زوجتك نفسي) داستها أقدامنا وأنا أضمها بكل سعيري واحتراقي.. كنت أعرف يقينا بأنها صارت لى وأصبحت ملكى فى حضرة الشيطان.. أول مرة أشعر أنني أغتصب امرأة.. كلهن كن يأتين يسعين كالفراشات للاحتراق فى نارى.. كان سيرى الطويل إلى هذه الفتاه قد أنهكني.. صفعتها بجنون.. مزقت ملابسها.. هالتها المفاجأة.. تحجرت الدموع فى عينيها.. احتبس الصوت فى حنجرتها.. وفي عينيها ارتسمت نظرة لا أنساها.. ذهول مقترن بالخوف.. ارتعش جسدها وهى تتراجع للخلف حتى اصطدمت بالجدار.. سقطت متهاوية.. جثوت على ركبتي وحملتها بين يدي وجسدها يرتعش متجاهلا نظرة الرجاء الحارة.. ودارت الأيام دورتها الطويلة بكل فرحها وحزنها وأحداثها فى ليلة واحدة.. وتبدلت ملامح الفرح على وجهها إلى ملامح الفجيعة.. أمسكت الورقة .. تأملت لون دمها وقد تجلط وتحجر وفقد نضارة احمراره.. تذكرت تلك اللحظة التى جرحت فيه يدها لتكتب بدمها زوجتك نفسي.. قلت لها : لا داعي لذلك.. قالت لى : لقد أرادني شباب كثيرون ولكنى لم أر فى الدنيا رجلا سواك.. لم أثق إلا فى أمانتك أنت.. أنا لم أأتمن أحدا سواك على نفسي.. ولم أفكر فى القدوم إلى بيتك إلا وأنا أثق فى طهارة علاقتنا وأنك لن تمسني بسوء أليس كذلك حبيبي؟
لم أضطرب لحظة واحدة فقد كانت تلك اسطوانة ترددت كثيرا على مسمعي من كل فتاة أتت إلى هنا.. نعم هذه كانت مختلفة.. والسير إليها كان صعبا وطويلا.. وبذلت مجهودا مضنيا حتى جعلتها تثق فى كل هذه الثقة.. اخترعت لها مفردات فى الحب مختلفة.. كنت واعيا تماما بكل خطوة أخطوها ناحيتها.. وأعرف تماما ما الخطوة التى تليها.. ولا أتحرك تجاهها إلا بحساب دقيق.. كان كل ذلك يصب فى هدف واحد.. أن أحصل على هذه الفتاة فى سريري بدون أى تكلفة.. وهاهي خطتي قد نجحت على أية حال وهاهي فى بيتي.. وبعد دقائق ستكون لي.. قلت لها وأنا أجرح نفسي : نعم حبيبتي وأنا كذلك سأكتبها بدمى مثلك.. كانت سعيدة جدا برغم القلق البادي علي وجهها.. وما إن انتهيت من كتابة الورقة بدمائي.. حتى وقفت تريد الانصراف فجن جنوني.. بعد كل هذا الجهد الخارق تنصرف هكذا بسهولة.. تبدل وجهي فى لحظة.. ظهر الوجه الآخر الحقيقي الذى لم يسبق لها أن رأته منى أبدا.
أمسكت الورقة لأمزقها كعادتي بعد كل تجربة احتراق.. إلا أننى سمعت همهمة من ناحيتها.. التفت فوجدتها جالسة فى الفراش تلملم جسدها بالغطاء.. ثم التفتت ناظرة إلى نظرة ميتة.. فارغة من أي معنى.. ثم تناولت ملابسها وارتدتها.
تحركت نحوى ووجهها يحمل نفس تلك النظرة المقتولة.. وجه فقد كل حيويته التي كانت منذ ساعة.. رفعت عينيها إلى وجهي.. كانتا فى اتجاهي ولكنها كانت تنظر للاشيء.. ارتعدت أوصالي من تلك النظرة.. خفق قلبى خوفا ورعبا.. تناولت الورقة من يدي.. تأملتها برهة كأنها تقرؤها.. مزقتها إلى قطع صغيرة.. نثرتها على الأرض.. ثم دارت عيناها فى أرجاء الحجرة بذات الوجه الميت والعيون المتحجرة وتركتني وانصرفت.