تبارك الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعامين نذيرا ، والحمد لله الذي جعل الشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم ، سبحانه ؛ يسبح الرعد بحمده والملائكة من خِـيفته ، وتبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا ، والحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما ، سبحانه متصف بصفات الكمال والجلال ، منزه عن النقص والمثال ، أشهد أنه ربي حقا حقا والصلاة والسلام على الرحمة المهداة والنعمة المسداة نبي الرحمة للعالمين ، خير ولد آدم ، وأعبدهم وأتقاهم لربه ؛ صلى الله عليه مادام الليل والنهار صلاة تامة دائمة إلى يوم التغابن، أشهد بحبه وأنه رسول الله حقا حقا ، ورضي الله عن الصحابة الكرام خير خلق الله بعد الرسل الكرام ، رافعي لواء المجد ، حاملي لواء الدين ، ومن سار على دربهم ولزم غرهم إلى يوم تبلى فيه السرائر .
أيها الأحبة :
لم يتغزل الأدباء في فصل من فصول العام كمثل تغزلهم ووصفهم للربيع ، فأمسوا يصفونه ويتغزلون في حسنه وجماله ، وما يعود على النفس من بهجة وسرور ، فعند إقبال الربيع ؛ تتزين الأرض وتلبس أجمل الحلل ، تغري بها أصحاب الذوق الرفيع ، ومتذوقي الجمال ..
فالوجه الطلق الضحوك ـ من الحسن والجمال ـ حتى كأن يريد أن ينطق بحسنه وجماله ، تتفتح أوائل أوراق ورده خجلى ؛ ببرد الندى ، كأنه يوصل بينهن حديثا خاصا مكتوما ، وبات الندى عليها كمثل لآلئ قد زاد منهن الفرادى التوأم ، وتبدو الأرض من جمالها كأنها العروس في زفافها ، تعطي للعين بشاشة من بعد نضارة بدت في محياها ، تدفع بذلك قذى العين وما لفها من أيام مضت ، وينشر نسماته العطرة كأنها تهب بأنفاس الأحبة ، نعمة من الله .
وأي حبيب أقرب من محمد عليه الصلاة والسلام . عجز الأميري أن يصف ربيعه فقال :
ربيعك للروح كالبلسم *** بهيج الضحى رائق المبسم
يحرك في النفس وجدانها *** ويطلقها من إسار الدم
ويبعثها حرة لا تضيـــق*** بكيد العواذل واللوم
ويرفعها من حضيض التراب *** إلى الأفق الأرحب الأكرم
ويغمرها بحنان السماء *** و يمنحها هيبة المسلم
فتشرق في القلب أنواره *** وينبض بالحمد للمنعم
ويمشي سويا على منهج *** سليم يؤدي إلى أسلم
ويعبق فيه أريج الهدى *** زكيا يطول على الموسم
أرقُ وأندى من الياسمين *** وأبهى جمالا من البرعم
ربيعك يا سيد الكائنات *** سناه ينير القلوب العمي
ويروي غليل العطاش الذين *** يرون السراب كسيل طمي
أعد الأبيات وكرر وتمعن ثم صلي على الربيع الدائم .... ( محمد ) .
فالأديب الحق له مزيتان : إحداهما تذوقه لما يراه ويسمعه ذوقا عميقا كأنه يجد حلاوته في فمه ، لكنه يجدها في نفسه ، وثانيهما قدرته على تحويل تلك المعاني التي يجدها في نفسه إلى كلمات تعبر أصدق التعبير عما يجول في خاطره وما يتذوقه .
هذا هو الربيع ... وهذا هو الأديب ...
غير أن المؤمن الحصيف يمتلك مزيتان أكثر مكانه مما يملكه الأديب هما : أسساً وحساً تؤهلانه لأن يتذوق ما حوله ، وأن يعبر عن هذا التذوق في صورة عمل ، ليس بالضرورة أن يكون بيانا بألفاظ ، بقد ما يكون بيانا بأعمال ، هذا دأب المؤمن ؛ فإن كان أديبا مسلما فذلك الزبد بالعسل ؛ كما قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه.
أسساً تمكنه من فهم ما حوله ربما بطريقة يميزها حسه الإيماني ونظرته إلى الدنيا والآخرة ... وحساً يمسيه متأثرا غاية التأثر بما يسمع ويرى ويعقل .
قال تعالى : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) (لأنفال:2).
وصف الله تعالى المؤمنين في هذه الآية بالخوف والوجل عند ذكره . وذلك لقوة إيمانهم ومراعاتهم لربهم , وكأنهم بين يديه .
وقال سبحانه ( اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ) (الزمر:23)
تضطرب وتتحرك بالخوف مما فيه من الوعيد . وقال زيد بن أسلم : ذرأ أبي بن كعب عند النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه فرقوا فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( اغتنموا الدعاء عند الرقة فإنها رحمة ) .
وعن العباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا اقشعر جلد المؤمن من مخافة الله تحاتت عنه خطاياه كما يتحات عن الشجرة البالية ورقها ) . وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ما اقشعر جلد عبد من خشية الله إلا حرمه الله على النار ) .
وعن شهر بن حوشب عن أم الدرداء قالت : إنما الوجل في قلب الرجل كاحتراق السعفة , أما تجد إلا قشعريرة ؟ قلت : بلى ؛ قالت : فادع الله فإن الدعاء عند ذلك مستجاب . وعن ثابت البناني قال : قال فلان : إني لأعلم متى يستجاب لي . قالوا : ومن أين تعلم ذلك ؟ قال : إذا اقشعر جلدي ، ووجل قلبي ، وفاضت عيناي ، فذلك حين يستجاب لي . راجع تفسير القرطبي.
والمسلم إذ هو كذلك لا ينسى ما رواه مسلم في صحيحه ( إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ )
فهو يسعى للجمال يتذوقه ويحبه ويحرص عليه لأن الله جميل يحب ذلك منه .
يتبع >>> إن شاء الله تعالى ..