لماذا أحسّ أن للكلماتِ روحاً ، تشعُّ بحالِ فاطِرِها لحظةَ الانبعاث .. و أنّها تخرجُ تارَةً كاسِفةً فاتِرةً ، و تارةً أخرى مشربَةً بالنّبوغِ و الحياة ، و أنّها تزدانُ بجمالِ اصطفافِها ، و مناسبةِ انتظامِها ، و روعةِ نثرِها ؛ كما يزدانُ الفردُ في مجموعةٍ أو كتيبةٍ متعدّدةِ الوظائفِ مكتمِلة المهام ، أفرادُها أكفاءٌ في مواضعهم ، زيّنهمْ سريانُ النّظام . فتغدو الكلمة و المفردة نظاماً كامِلاً تأمُّلُها و صِلَتُها ، كما العقيقةِ في عقدِ مسبحتِها ، و الحلقة في وسْطِ سلسلتها ، لا تعبّرُ إلاّ عن الوحدة المجتمعةِ و النّظام التّام ، و أنّ مفردةً منها أو حلقةً إذا تخلّفت عن القوّة و الجمالِ العام ، تخلّفتِ الوحدة كلّها . فهماَ جناحان ، جناحُ المجموعةِ و جناحُ المفردة . كلٌّ يمدّ الوحدة باكتمالِ المشهد و روعةَِ المعهَد . و هذان الجناحانِ هما ركنا المبنى و المعنى .
و يبقى قبلَ ذلك و بعدهُ ، روحُ المبنى و المعنى . فإنّي أزعمُ أنَّ للكلماتِ روحاً ، هيَ حالُ المُلقي ، و هيَ حالٌ تسري في المعنى و المبنى على سواء ، كما تسري الرّوحُ في الجسدِ ؛ فإنْ كانتِ الأشباحُ لا تصلحُ أجساداً إلاّ بالأرواح ، فكذلك الكلماتُ ... و إذا كانت مظاهرُ الرّوحِ و الحياة في الأشباحِ هي الأفعالُ و الحركات ، فإنَّ مظاهرَها في الكلماتِ وجودُ المعاني . و لقالَ لنا قائلٌ ما الرّوحُ إلاّ المعنى للمبنى . و نقولُ إنَّ روحَ الكلِمِ هي سرٌّ أكبرُ من المعنى ، بل هي سرٌّ زائدٌ يسري في المعاني ، كسرّ الأحاسيسِ في الأفعالِ و الأواني .
ألا ترى أنّ أفعالَ العبادِ قد تتشابهُ في كمّها و كيفِها و تزدَلِفُ ، و لكنّها في قبولِها عند الغيرِ تختلِفُ ، و قد تختلِفُ في قبولِها و ثمارِها كاختلافِ المسافة بين الأرضِ و السّماء . فهيَ إذنْ روحُ العبدِ السّارية بأحاسيسِه ، فليسَ إحساسٌ يقتبِسُ من الملإ الأعلى ، كإحساسٍ وقفَ على الأنا ، محدوداً في رغباتِه و تطلّعاتِه .. شتّانَ بين الثرى و الثريّا .
و على هذا تتشكّلُ بوتَقَةُ الكلمات و أبعادُها .. مبنى و معنى يقومُ على المفردةِ و المجموعة ، ثمّ الرّوحُ التي بها سرَتْ ، و عليها فُطِرَتْ .
فهي أبعادٌ ثلاثةٌ ، أوّلُها بُعدُ الرّوحِ ، و هو السرٌّ المتميّزُ بين حالٍ و أخرى سواءُ نبعَتْ من مصدرٍ واحد أو أكثر .
ثمّ يأتي بُعدُ المعنى ، و الذي بهِ تتمايزُ الخطاباتُ والكَلِم ، و عليهِ تقومُ قوالبُ الأفكار و القيَم ، فمن معنىً يسفُّ و يتدنّى إلى حضيضِهِ الذي منهُ رشَح و تدفّق ، إلى معنىً يسمو و يرتفعُ حتى يبلغَ عنانَ السّماءِ ، فيتدلّى كالشمسِ مشرِقةً مع الأفقِ ، أو كالنجمِ يشعُّ في ليلِهِ بالألق .
ثمّ بعد ذلك يأتي بُعدُ المبنى الذي يشكّلُ الجمالَ الحسّي و التمكنَّ التشكيلي ، و هو للمعنى لازمٌ من لوازمِ تمامِهِ و كمالِه ، و جانبٌ من جوانِبِ جمالهِ و جلالِه ، فهو قالبُ المعنى و مبناه ، لا يتمُّ إلاّ به ، كما لا تتمُّ للرّوحِ كمالاتُها و خصائصُها إلاّ من خلالِ الجسمِ و الشّبح ، إذ هو المعبّرُ عنها و المترجمُ لها .
فهذا الذي ذكرناه من أبعادٍ و تفصيل هو الكلمات و الحروفُ ، و التي تنوّعتْ على اختلافِ أشكالِها و أنماطِها ، بين نثرٍ و شعرٍ و خواطرٍ و قصصٍ و جميعِ الأصنافِ الممكنة و الموجودة .