بقلم د: ســـلطان الحريري.
كلمات راعفة في رثاء عروبتنا
برثاء الشهيد -بإذن الله تعالى-
الأخ الحبيب الأستاذ عدنان البحيصي
الذي غادرنا إلى مولاه ،
وأنا شاهد على أنه كان يرجو الشهادة مذ عرفناه.
..................
الْعُروبَةُ وماءُ الْوَجْهِ!!
سَكَتَ اللِّسانُ وَجَفَّتِ الأَقْلامُ = هَيْهاتَ مِنْ بَعدِ الْفَقيدِ كَلامُ
لأنَّ اِقْتِرافَ الْوََطَنِ جُرمٌ تَقَرَّرَ في هَيْئَةِ الأُمَمِ،
وعلى الْكَراسي الْوثيرةِ؛
تَهاطَلَ منْ مُزْنِ دمِكَ وَطنٌ مُوْجَعٌ يَخْلَعُ عنْ جَسَدِهِ عَباءَةَ الذُّلِ،
وأنْتَ تَقولُ لِلْمَوْتِ :
انْتَظِرْني كَيْ أُمَشِّطَ شَعْري، وأَسْتَعِدَّ لِلقاءِ الْوَطَنِ على رَصيفِ الْرّوحِ،
فهُنالِكَ فَرَحٌ مُؤجَّلٌ يَنْتابُني مِنْذُ خُلِقْتُ،
وهُوَ أنْ أُريحَ جِراحي عِنْدَ أرْصِفَةِ الْمَغيبِ،
وأُرتِّلَ الْكَرامَةَ الْمُعتَّقةَ بِمِدادٍ منْ دَمٍ،
وأَقولَ لِمَنْ حاوَلوا ذَبْحَ أصْواتِ الْمُؤَذِنينَ:
مآذنُنا اِشْرَأبَّ نِداؤُها،
فيا مَوْتاً بِِشَرَفٍ لُقْياكَ عيدٌ وأَيُّ عيدٍ!
وبِحِضْنِ الوَطَنِ خَبّأتَ عُمْرَكَ الوَرْديَ،
وحَولَكَ الْكَرامَةُ تَسِحُّ دُمَوعَها وَجَعاً أَمامَ أبْناءِ الْخَوْفِ،
وقَدْ عَرَفْناكَ مُتَّقِدًا،
وفُؤادُكَ يُمزِّقُهُ لُهاثُ الْوَجْدِ ...
يَنْزِفُ بالضَّراعَةِ كيْ تُظَلِلُكَ الْمَلائِكَةُ بالْغَمامِ،
فارْتَقَتْ عَيْناكَ بالنُّورِ حينَ رأتْهُ، وبالرِّضا الذي مَنَحْتَهُ روحَكَ،
وسَتَبْقى الْجُرْحَ في مِحْرابِ الْكَرامَةِ،
وأنْتَ تَتْلو سورَةَ الإسْراءِ مُنْتَظرًا لِيَوْمٍ تُقابِلُ فيهِ ذاتَكَ،
وتُقابِلُ كِرامَ الصَّحْبِ مِمّنْ أشْعَلوا فَتيلَ الْمَجْدِ،
وتَقولُ للْمَوتِ الْمُشَرِّفِ :
أنا أكْمَلْتُ رِسالَتي وأيّامي،
فَدَعْ جَسَدي بِحِضْنِكَ,
فَقَدْ اعْتَصَرْتُ ثـَدْيَ الْمَجْدِ قَطْرةً قَطْرةً،
وفَضحْتُ بِِمَوتي كُلَّ مَنْ يَبيعُ للطّامِعينَ الطُّهْرَ،
وأماتوا في بقايا ذَواتِنا الأصالَةَ وبذورَها.
موتُكَ -أيُّها الْكبيرُ -
فَضَحَ الْعفنَ في خَشَبِ الْبنادِقِ،
والنُّفوسَ التي اسْتراحَتْ لِهزائِمِها،
والرِّجالَ الّذينَ نَجَّسوا حَليبَ أُمّهاتِهِمْ،
وعَبثوا بِما تَبَقّى منْ بَكارَةِ الْكرامَةِ،
وغازَلوا ناقلاتِ الْجُنْدِ بالْأطفالِ والسّنابِلِ،
وغَزّةُ الأبِيّةُ تُخبِّئُ تحتَ عباءَتِها الْعِزَّةَ وكلَّ ما بَخِلَتْ بهِ منْ مُدنِ الرّمادِ ...
غَزّةُ تَغْسِلُ وجهها كُلَّ صباحٍ بوضوءاتِ النّهارِ،
والْعواصِمُ تَمْسَحُ عنْ وَجهها غُبارَ الّليلِ بعدَ أنْ حاصَرتْها الأنْظِمَةُ،
و غَزّةُ تَحْرُسُ الْطُهْرَ في مُقلتيها،
وعروقُ الْمُدنِ الأخْرى شتاتٌ تَنَجَّسَ الدمُ اليَعربيُ في عُروقِها.
كنْتَ -يا عدنان - الحكايَةَ ...
حكايةَ التّينِ والزّيتونِ،
وكانَ لِصوتِكَ مُذْ عرفناكَ دِفْءُ الشّهادَةِ،
ووقفْتَ بموتِكَ أمامَ منْ يُمارِسونَ قَتْلَ الأطفالِ،
ويَسْفكونَ دماءَهمْ ليعجنوا كعكةَ العيدِ في نهايةِ الْعامِ ،
ولِيُكمِلوا طقوسَ عِبادَتِهمْ باللهوِ بِقلعِ الْعُيونِ!!!
يا صِحابيْ :
لا تَبتئِسوا فقدْ غَدوْتُ شَهيدًا على صَدْرِ أمٍّ وَلودٍ تَزُفُّ كُلَّ لَحْظَةٍ عَروساً يُرَصِّعُ عُرْسُهُ ثَوْبَ السّماءِ .
زُفّيني -يا أمَّاهُ - بالزَّغاريدِ وأناشيدِ الصّبايا الصّالِحاتِ
فقدْ مَلَكْنا الرّيحَ لِنَحُطَّ رمادَ الْمُدنِ الْمُتعفنةِ فـي الْجَمْرِ ...
وأنا الآنَ في مكاني أرى على قُبَّةِ الصّخْرَةِ خَطْوَ الْحبيبِ...
لا تَبْكيني -يا غالية -
فَقَدْ رَضِعْتُ الْعَهْدَ من ثَدييكِ،
وقَرأتُ الوَصايا منْ عَينيكِ،
وبعضُ منْ ظننتُ أنَهُمْ إِخوتي باعوا قَميصي للذّئابِ،
وقايَضوا باسمي وبِأسماءِ صِحابي قاتِلَهُمْ وسَيّدَهُمْ،
وسوفَ أخطو خُطوتي الثّانية لِأَكشِفَ وجهَ اليهوديِّ بعدَ الشّتاتِ،
وسأبقى تحتَ الثّرى دُرَّةً،
وسأحيا مُضيئاً بِرغمِ النّافِخينَ بأفْواهِهمْ على قَبري،
و غَزّةُ نَخْلةٌ لا تموتُ، وتُساقِطُ كلَّ حينٍ رُطَبا جَنيا.
مَنْ سَيسقي شَهيقَكَ الأخيرَ بِقَطْرَةِ ماءٍ،
ومنْ سَيعيدُ حِكايَةَ التّينِ والزّيتونِ؟
ونَحنُ نَسْحَبُ ظِلالَنا مِنْ تَحتِ جوعِ الرَّصاصِ،
ولا يَصلُ صدى أصْواتِ الثّكالى إلى مَسامِعَنا،
وأنتِ يا غَزّةَ الْعِزِّ لمْ تَعْرفـي يوماً خوفَ النّوافِذِ والْمَنافِذِ ،
ففي كُلِّ صباحٍ يُولَدُ طِفْلٌ لا يَبدأُ حياتَهُ بالْبُكاءِ ...
ويَختارُ اسْمَهُ فـي زَمَنِ يَتوارى فيهِ الرِّجالُ بِظِلِّ نَمْلَةٍ؛ باحِثينَ عنْ فيَء لِخذلانِهمْ..
زمن أضْحَتْ ضَمائِرَنا فيه غائِبةً تَحومُ فَوقَها الْغِربانُ
بعد أن كانتْ الْقدسُ تنامُ في طيّاتِ عباءاتِنا،
وتَحْتَ كوفياتِنا الْعَربِيّةِ،
وفي صُدورِ قَصائِدِنا،
وفي أفْواهِ بَنادِقَنا.
عُروبَتُنا وماءُ الْوَجْهِ لا يلتقيان،
وتَحْتَ جُلودِ أهْلِ الْكرامَةِ تَخْتبئُ أُمَمُ الْقَهْرِ،
والشهامَةُ تُساقُ إلى الذّبْحِ ،
وهيَ تَزْفُرُ بالْحِرْمانِ والأَلَمِ،
وتَضِجُّ بالبارودِ الّذي لا يَجِدُ فَتيلاً يُشْعِلُهُ،
ومَراكِبُ الْعِزّةِ اهْتَرأتْ، والْقصائِدُ شُنِقَتْ على أطْرافِ ألْسِنَتنا،
والْمسافاتُ تُحاصِرُنا في داخِلِنا ،
فَترتمي الْحروفُ خَجلاً على أعْتابِ الْقَهرِ ،
وعلى ورقٍ مُتَعطِشٍ لِمدادِ الْيقينِ.
والشُّهداء كانَ الظّلامُ رِداءَهُمْ ،
والْمجدُ خادِمَهم ، ولمْ يَغْدُرْ بِهِمْ الصّباحُ،
ولا أفشى أسْرارَهُمْ ، ودماؤُهُمْ تَمْضي إلى أحْلامِها .
وأنا أسْتَحيلُ فوقَ صَفحتي قلباً يُداجي حُروفَه ؛
كيْ يَزْرعَ الْعِنّابَ على روحِكَ- يا عدنان –
أَوّاهُ يا عُمْراً يَتَشَبّثْ بالباقياتِ الصّالِحاتِ ...!!!
أَوّاهُ يا حَرْفاً يَرْجُمُ الذّاتَ،
ويبيعُ الأحْلامَ والأقْلامَ والشّهداءَ في سوقِ النِّخاسَةِ!!
أَوّاهُ يا رُجولَةً مَذبوحَةً تَستجيرُ بالرّيحِ لِتذروها هُموماً!!!
أَوّاهُ منْ جيلٍ تَقيأَهُ يَهوذا نَراهُ على صفحاتِ الْجرائِدِ وعلى ( الْعربيّةِ ) منَ الفَضائياتِ!!
أَوّاهُ -يا عدنانُ -
يا آخِرَ الصّرخاتِ في قَفْرِ النّفوسِ،
و يا قَلْباً يَعْبُرُ النّسيانَ في ضَمائِرِ اخْتلافاتِ الزّعاماتِ على مَراثي ما تَبَقّى لنا مِنْ كَرامَةٍ.
يا ظِفْرًا نَبَشَ التّاريخَ بَحْثاً عنْ بدءِ ،
وعنْ نِهايَةِ،
ويا لُغَةً منْ عِزّةٍ هَجَرْتْ حُروفَها،
ونحنُ نَمْضَغُ مَرارَةَ الأعْذارِ ،
ونَعُضُّ على نَواجِذَ كَسَّرها صُوّانُ الْقَهْرِ ...
يا دَمْعَةً على خَدِّ تاريخٍ عَقيمٍ ،
ويا لُغةً مُقدسَةً تَغَصُّ بِلَغوِ الْحديثِ على أفْواهِ الْمُتخاذِلينَ!!!
عدنانُ يا كَلِمَةً لا تُمْحى ...
اذْهب يَرعاكَ رَبُّكَ الذّي اخْتارَكَ ...
و فوقَ رُعافِ الْكَلماتِ سأَنْحَتُ اسْمَكَ،
وأوْدِعُهُ حُبّي وصَبريْ وصَفْحةً جديدةً تَبْدأُ منْ حَيْثُ انْتهيتَ .