حين تكون الرؤيا أعمق من الرؤية
تتراءى للأصفياء بعض نبوءات الغيم
صديقك المخلص.
لم أفهم جيدا مغزى هذه العبارة، التي خطها لي صديقي كتذكار منه، ولأن الفضول كان أقوى لم أستطع صبرا لمعرفة أبعادها ودلالاتها، فما كان مني إلا أن اتصلت به، وسألته اللقاء في أقرب وقت ممكن، في الواقع لم يجادلني في الأمر ، بل لبى طلبي بكل حب وسرور.
الجمعة ...... الساعة السابعة والنصف مساء....... مقهى التنوير ...
هذا هو زمان ومكان اللقاء، حضرت في تمام الساعة السابعة، ولهذا الحضور المبكر مبرران ، أولهما الحرص على احترام الموعد ، وثانيهما الشوق الشديد لإرواء فضولي ، يفصلني عن الموعد نصف ساعة ، ولأنني ارتأيت عدم السماح لهذه الدقائق المتبقية بتوريطي في التخمين أو التكهن أو ملء فراغها بالكلمات المتقاطعة، قررت أن أقرأ صفحات من كتاب بعنوان: ذكريات الزمن القادم ، وقفت طويلا عند الصفحة الأولى ،حيث أثارني افتتاح غريب ، قال صاحب الكتاب :
" قد يكون الفراغ مليئا بالحكمة، لكن لا يمكن للحكمة أن تكون مليئة بالفراغ " .
يعجبني هذا الغموض المحفوف بالتأويل ، في قرارة نفسي هممت بالسفر ، لولا أنني تذكرت موعدي مع صديقي ، فأجلت الرحلة إلى وقت لاحق، وضعت الكتاب جانبا تأكيدا للتأجيل قبل أن تمتد يدي إلى إحدى الجرائد اليومية، متورطة بذلك في إحدى الجرائم اليومية، المتعلقة بقتل الوقت ، وبينما أنا أمثل الجريمة بالكلمات المتقاطعة ، إذا بصوت مألوف يحييني :
- السلام عليكم
رفعت رأسي فإذا هو صديقي العزيز، قمت مسرعا حضنته بقوة أحسست خلالها أني أحضن نفسي، لدرجة التساؤل لماذا لا يحضن الإنسان نفسه ؟
- وعليكم السلام يا أستاذنا العزيز، تفضل بالجلوس، ماذا تشرب ؟ إذا لم يكن المكان مريحا نغيره،لا مشكل المهم أن تشعر بالارتياح
- أنا مرتاح جدا بوجودك.. لا عليك
ناديت النادل
- نعم .. أش حب الخاطر ؟
- جيب لينا جوج حليب سخون
- لا أنا جيب لي شي نص نص الله إيخليك
- لماذا تختار أنصاف الأشياء .. السابعة والنصف.. نص نص ... هل مازلت تبحث عن نصفك الآخر ؟
- أبحث عن النصف الأول أولا
- نصف النصر نصر غير أن ما ينقصه عن النصر الكامل نصفه، بالمناسبة قل لي ما تأويل عبارتك التي كتبتها لي ؟
- في الواقع عندما أخبرتني أنك التحقت بميدان التدريس، وطلبت مني بعض التوجيهات، لم أجد سوى هذه العبارة لتكون فاتحة تواصلك مع عالمك الجديد، حتى لا يورطك التسرع في تدمير مستقبل أحد تلاميذك، مثلما كدت أفعل عندما قررت منع أحد تلامذتي من حضور حصصي ، بل وطالبت الإدارة بفصله ، لأنه كان مشاغبا جدا ، وجريئا أكثر من اللازم، لا تكاد مشاكله تنتهي ، وفي كل مرة يتعهد بعدم الرجوع إلى مثله أبدا ، ثم سرعان ما يعود ، إلى أن جاء ذلك اليوم الذي تجاوز فيه كل الخطوط ، وتجرأ على صفع زميلته داخل القسم ، دونما اعتبار لي أو لزملائه ، لم أتردد في طرده ، وإخبار الإدارة بما فعل من خلال تقرير مفصل مصحوب بتوقيعات باقي التلاميذ ، الذين توجسوا منه خيفة، لأنهم أحسوا به يهدد أمنهم الاجتماعي، وروابطهم الإنسانية، بسلوكه العدواني الشيء الذي أحسسته أنا أيضا بكل صراحة، مما جعلني أصر إصرارا شديدا على فصله نهائيا من الدراسة، لم أستغرب من موقفي العنيد ، ولا من موقف بعض الأساتذة والتلاميذ الذين جاؤوا يستسمحونني لأصفح عنه ، بقدر ما اندهشت من موقف التلميذة التي تعرضت للصفع و الاعتداء، وهي تقدم لي تنازلا خطيا مفعم بعبارات التسامح والتماس العذر لزميلها رغم ما فعل، لم أتمالك نفسي حين سألتها بغضب شديد :
- هل أنت خائفة منه ، ؟ لن يمسك بسوء ، سنخبر الشرطة وستتعهد عليه بعدم التعرض لك .
- لا لست خائفة منه ، بل عليه
- ماذا تقصدين ؟ إذا سامحته فسيعيد تكرار فعلته ، معك أو مع غيرك ، وعلى أية حال فتنازلك لن يغير من الأمر شيئا فأنا لن أتنازل ولن أسمح للإدارة بالتنازل .
نظرت إلي تلميذتي بعينين مغر ورقتين وانصرفت مسرعة خشيت أن تنفلت دموعها أمامي ، فتكثر أسئلتي وشكوكي . حين انصرفتْ أحسست بشيء مبهم يصرفني عن متابعة إجراءات فصل ذلك التلميذ ،إلى التفكير في التلميذ ، لأول مرة أنتبه إلى أنني مخطئ في دراسة وتدريس الرواية ، كيف أكتفي بالفعل دون دراسة القوى الفاعلة، وأي رؤية سأتبع ؟ لا سبيل للحيرة، هناك رؤية واحدة تضمن لي سلطتي، الرؤية من فوق ، من الأعلى لن أجازف بالنزول إلى المستنقع، ولن أسمح له بالصعود إلي، لن أغير موقفي، ولن أتورط في عواطفهم
الطفولية تلك، ولكن ماذا عن عواطفي ، هل تحجرت لأنني لم أعد طفلا ؟ وعندما كنت طفلا هل كانت لي عواطف حقا ؟ وما العواطف أصلا ؟ أتكون أجنحة من نور لا ترى بالعين المجردة من الحب والأمان ؟ لماذا أكره الحديث عن طفولتي ، ولا أبوح بتفاصيلها إلا لأوراق حين تمتلئ أحرقها قربانا للصمت وكتمانا للسر ، ألانني كنت أخاف أبي وأمي حين يغضبان و حين يتشاجران ؟ لكنني لا أخافهما الآن ، و لا أخاف شجارهما ، أنا الآن أنا ، ولتكن طفولتي جملة اعتراضية في سياق حياتي ، لابد أن أطرده كي يخافني الآخرون ، سأطلب من مدير المؤسسة
التعجيل بذالك ، وقبل أن أبرح مكاني فوجئت بالمدير يطرق باب القسم مستأذنا :
- تفضل رجاء
- شكرا .. في الواقع أريد التحدث معك بخصوص التلميذ الذي....
- الذي أنهيت إجراءات طرده ؟
- لا لم أطرده بعد ولا أظنني سأفعل
- لماذا هل تخافه أنت أيضا ؟
- لا بل أخاف عليه
- ما الذي حدث لكم، جميعكم تدافعون عنه ، وتخافون عليه ، هل تنصرون أخاكم ظالما و مظلوما ؟
- وما يدريك ؟ ربما كان فعلا مظلوما من أقرب الناس إليه، أنا لن أدافع عنه، ولكن سأخبرك بقصة أرجو أن تستمع إليها بكل جوارحك لأنها قصة واقعية ، بطلها تلميذ ، كان مشاغبا ومشاكسا جدا ، لايقترف إلا كبائر المشاكل وفي مرة
قررت الإدارة فصله، غير أن أستاذه تدخل لتخليصه من الورطة، بعدما اخذ عليه إقرارا بعدم المعاودة ولأن الطبع يغلب التطبع ، لم تمض سوى أيام معدودات حتى ضبطه متلبسا برسومات مخلة بالأدب ، شيء طبيعي أن يعيد رسم الأشياء المخزنة في ذاكرته، خاصة حين يحس بامتلاكه موهبة الرسم بالخطوط والألوان، والأشكال ، لكن المثير للتساؤل والقلق هو المصدر الأصلي لتلك الرسومات ، وكيف وصلت أو وصل إليها ذلك التلميذ ؟ ومن كان وراء استفزاز غريزة هذا الطفل قبل أوانها، وتجريد البراءة من عفويتها وصفائها ؟ أليس الأولى بنا أن نبحث عن الأسباب والمسببات قبل محاكمة النتائج ؟ أسئلة ما أظنها كانت ستراودنا لو كنا نحن ذلك الأستاذ الذي ضبط التلميذ متلبسا برسوماته ، لأننا كنا بكل بساطة سنكتب تقريرا لا يتردد قارئه في فصل مرتكب الجنحة الأخلاقية المذكورة آنفا ،غير أن الأستاذ كان له رأي آخر ، ورؤية أخرى ، حين صفق للتلميذ بحرارة وشجعه على متابعة الرسم ، واقترح عليه أن يرسم شيئا يستطيع تقديمه للمجتمع ، والمشاركة به في المسابقة التي تنظمها المؤسسة ، فقام التلميذ فورا بتمزيق تلك الرسومات ، وعاد بعد يومين حاملا معه رسومات تحاكي الطبيعة بمختلف مناظرها ، وفاز بالجائزة الأولى ، وتغيرت حياته تماما ، وقرر أن يكتب قصته هذه ، ويسميها :
" خدوش على جدار طاولتي " وهو الآن مدير المؤسسة التي تعمل بها يا أستاذ .
- أتقصد أنك أنت هو ذلك التلميذ يا حضرة المدير ؟
- نعم أنا هو ... أنا هو ..
انصرف المدير ، وأجهشت عيناي ببكاء شديد ، كأنهما غيمة كانت تخبئ مطر سنوات عجاف لترسلها دفعة واحدة ، لأول مرة أحس بحميمية العلاقة مع البكاء ،الآن فقط أدركت أن الطفل بداخلي كان ينتقم لإخفاقات طفولته ، لن تبقى طفولتي جملة اعتراضية ، سأجعلها استئنافية ، ولتستعد طفولتها الأشياء ، في طفولة الآخرين ، فلكم قلت في نفسي آهٍ لو تعود الطفولة رقراقة..
كأنهارِ ظــلٍ نفـــــيءُ إليها
ونرتاعُ في روحها الطـــــيبِ
كنتُ تركــــتنِي شريدًا هنا
وعدتُ أزرعُ المنى في ملعبِي
ولأنه لم يكن هناك مجال لتردد ، استدعيت التلميذ ، وجلست إليه ، وعرفت أنه يلجأ إلى العنف هروبا من الإقرار بالضعف النفسي الذي أفرزته الصراعات الأسرية ،التي أدت إلى انهيار المنظومة التربوية ، وتعثر النمو النفسي والذهني الطبيعي عند الطفل، أسترجع هذه المعطيات، واستحضر في الآن ذاته عقليات ترى في النظريات الحديثة ، وعلم النفس ، وعلم الاجتماع ، ضربا من الفلسفة الفارغة ، خاصة حين توفر للطفل ضروريات العيش من أكل وشرب ونوم ودراسة ، حيث لا حق له بعد هذا في أي شيء آخر حتى لو كان مجرد ابتسامة شفافة صادقة ، هي في وجوه الآخرين صدقة، فكيف في وجوه أطفالنا ؟ أو مجرد قبلة صباحية مسائية، تمنح صغارنا الشغف بالحياة، أو مجرد ضبط للنفس وعدم التشاجر أمامهم حتى لا تتكسر بدواخلهم تلك اللوحة البراقة عن آبائهم وأمهاتهم ، تبقى كما قلت كتب "ستيفن كوفي " وغيره من الباحثين والمهتمين بالشأن التربوي والتنشئة السليمة، في نظر ثلة مجرد كلام ومصطلحات ليس إلا ، حتى تفاجئهم الأيام بسقوط أبنائهم في براثن الانحراف أو التطرف ،إذ ذاك يولولون ويتحسرون ، ولات حين ندم ، وبمقابل هذا نجد الحديث عن الشراكة بين الأسرة والمؤسسة ، لا تفتر به ألسن الفاعلين التربويين ،ولكن السؤال ، هل تمتلك الأسرة كفايات وبداغوجيا التعليم ؟ وهل تمتلك المؤسسة القدرة على تحمل مسؤولية التربية ؟ من منهما تمتلك سلطة التغيير، ومن تمتلك قدرة التأثير ؟ بالسلطة أم بالتأثير نبلغ الغاية المرجوة، أم بهما معا ؟ كادت الأسئلة التي تتناسل في ذهني بسرعة الضوء، تشغلني عن متابعة الحديث مع تلميذي الذي عاهدت نفسي على مساعدته حتى يستعيد الثقة بنفسه، وبمن حوله ، وتستعيد العلاقات توازنها ، لم يكن الأمر سهلا ، لكنني كنت وما أزال أحتفي وإياه بكل إنجاز نحققه، ونجدد العهد على بلوغ الأفضل ، ولأنني أعشق الكتابة والتأريخ ، كتبت قصة أسميتها " نقوش على جدار ذاكرتي " بدأتها بالعبارة التي كتبتها لك ، وأثارت تساؤلاتك ،أرجو الآن أن أكون قد أشبعت فضولك بما يكفي لإضافة تجربتي إلى لائحة تجاربك المقبلة .
أعادتني إلي رنات الهاتف، لأجد الدموع قد بللت صفحات من مذكرتي التي أسجل فيها بعض المحطات العميقة في حياتي، وضعت المذكرة جانبا لأجيب على الهاتف، فإذا المتصل صديقي العزيز.
البيضاء في : 28 / 04 / 2007