كانت العيون جاحظة وهي تحدق في البحر وتلك العلامة القادمة التي بدت وسط البحر بحجم ريشة عصفور صغير،
ثم بدأت تكبر والأبصار شاخصة إليها، تراقب حركتها النامية وهي تستوي مثل خشبة تتقاذفها الأمواج، وتدفعها
ذات اليمين وذات الشمال ...
صاح طفل صغير: إنه لوح سفينة تهشمت على عتبات قريتنا النائمة.
وردت زوجة الحارس: يبدو أنه إنسان يطفو ... من يكون يا ترى، انطلقوا إليه ،،،، انجدوه...
ردت الطفلة وهي تلهو بجديلتها الذهبية: لعله الغريب ... ألم تلاحظوا غيابه؟؟
ظل الكل يرنو إلى تلك العلامة المقبلة خلف هدير الموج، وخيم الصمت لبرهة بينما كانت حركة تبادل النظرات
بين بعض قد احتدمت لتستقر على الحارس وفيها ما فيها من تساؤلات وحيرة ...
ظلت أغلب النظرات تائهة تعريّ لا شعور ذلك الشرطي القابع فوق الصخور ثم تنتقل إلى الحارس ولكن لا أحد
امتلك الجرأة للجهر بما يجول في رأسه...
وجم الحضور وهم يسمعون صدى بعيدا يرجّع كلمات الغريب المعتادة التي كانت تخترق صمت القرية كل صبح
ومساء: حاميها حراميها...
ماتت الكلمة على الشفاه الباهتة عندما تيقن الجمع بأنه الغريب قادما جثة بلا حراك... لقد مات.
بدأت علامات الاستفهام تتجول من جديد؛ كيف يغرق ابن البحر ؟؟؟ ولماذا ؟؟؟ ومتى؟؟؟ وكيف؟؟؟ .
وفي زاوية منسية من زوايا ذواتهم سكن وجع يأبى الإعلان عن نفسه ... أيعقل أن تكون هذه نهاية
قمر لياليهم الحزينة وصوت ضمائرهم الميتة؟؟؟
تتالت الأسئلة ثم تحجرت كما تحجر الدمع في المآقي ... واستمر التنقيب عن مشروعية نهاية معجلة لنكزة ضمير كانت لاسعة
ولم يكن فاعلها يوما على وفاق مع أحد، لذلك خذله البحر وابتلع جسده الواهن. لقد ارتاح وأراح..كان يخرّف ويهذي كالمحموم،
لا يطيق أحدا...يختلق حكايات غريبة عن ولاتنا الصالحين....ولكن ذلك الهاتف الخافت لم يتوقف: يا ناس اذكروا موتاكم بخير ...
سادت لحظة صمت وريبة وقد سافرت ذاكرتهم خلف ذاك الصدى وهو يصيح: "ما أنا بمجنون فاسمعوني: عشقت الليل وهمس القمر
فرأيت غرائب الأنام تحت نور البدر...وسبقوني إليكم يذيعون بينكم بأنني مشعوذ دجال لترجموني، وصدقتم بأني أحيا بالتخاريف وأنتعش
بالهلوسة ولا أستحق سوى النبذ ...و هكذا تحولت من عاقل مألوف إلى مجنون غريب منبوذ ...
قطع الشرطي لحظة الصمت: نهاية طبيعية لمن عاش غريبا وحيدا يهذي، هيا تفرقوا وعودوا لحياتكم الطبيعية....
صدقه الحاضرون وشيعوا الجنازة ...ثم انصرفوا مطمئنين !!!!!!!!..............