النّورس والغراب
[size="5"]جلس "أحمد" في حضن جدّه، وأصابعه تعبث بالخيوط القطنيّة المتدلّية من ذقنه لحظات، ولحيظاتٍ تنساب أنامله فوق الخيوط القّصبيّة التي توشّح عباءته الصوفيّة، حتى شعر بالملل، فطلب من جدّه أن يحكي له حكاية.
قال له جدّه: ألا يكفيك ما تسمعه وتراه على شاشات الصّناديق المبعثرة في زوايا البيت، والتي فلقت رأسي بضجيجها , وجمّرت عينيك لكثرة جلوسك أمامها؟
أعدك يا جدي أنّني سوف أريحك منها مدّة اسبوع إذا ما استجبت لطلبي.
هزّ الجدّ رأسه موافقا، وعدّل من هندام عباءته، وجلس متربّعا على فرشته الصّوفية، التي يعتزّ بها وبصوفها المجتزّ من نعجات والده، وقال: حسنا يا أحمد.
سأخبرك حكاية أعيش وإيّاها ...ولا تفارق مخيّلتي، مذ كنت شابّا أحترف مهنة الصّيد وحتى اليوم .
في أحد أيام الرّبيع ،اعتليت زورقي الخشبيّ، كما اعتدت معظم أيام السّنة، كي ألقي بشبكة الصّيد في البحر، وأكسب قوت ورزق يومي. عندما شارفت الشّمس على المغيب، بدأت بالعودة الى الميناء؛ واذ بي ألمح طائر النّورس، الذي كان يرافق زورقي ، يقف على قمّة صخرة ضخمة، تربّعت في الماء متحدّية كلّ لطمات الأمواج التي تتوالى عليها.
وقف الطاّئر الذي أنهي مهمّته في صيد الأسماك، وكأنه يستمتع بلون الشّفق؛ والخيوط ذات الاشعاع المتميّز، التي تتراقص داخل ماء البحر إلى ما لا نهاية .
على حين غفلة، حطّ على الصخرة غراب، وبدأ بمزاحمته ... احتجّ النّورس واستجمع قواه ليبقى ثابتا في مكانه، وبدأ بتصويب بعض النّقرات للغراب، كلمّا اقترب منه. ولكنّ نقراته لم تفلح في ثني الغراب عن وقفته وجثومه في المكان.
توقّف النّورس عن المواجهة، وتوجّه للغراب سائلا ايّاه عن مبتغاه. فأجابه الغراب: أرى أنك تقف على صخرة كبيرة، وتعيش هانئا وحدك، بينما أجوب أنا الأشجار والصّخور، لأجد لي مستقرا ومقاما فلا أستطيع. فلماذا لا تسمح لي مشاركتك في السّكنى؟
دهش النورس لطلب هذا الطاّئر الغريب، وأبدى امتعاضه واعتراضه، وكلما حاول الغراب الاقتراب منه وازاحته من مكانه، هاجمه بمنقاره.
استمرّت محاولات الغراب واحتجاجات النّورس، ولكنّ أحدا منهما لم يبرح مكانه، حتى تلاشى نور الخيوط التي اضاءت المكان.
عندما غزا ضوء النّهار المكان، في اليوم التالي، حاول الغراب الاقتراب من النورس لإبعاده عن مكانه، فثارت ثائرته وصاح به:
ألا يكفي أنّك قضيت الليلة في بيت لم يرحّب اصحابه بك، وتريد التّجوال كذلك؟ يا للوقاحة!
اطمأنّ قلب الغراب، لأنّ النّورس لم يستعمل منقاره هذه المرّة لمنعه من محاولة الاقتراب منه، وقال له:
هيّا نتفق على اقتسام الصّخرة دون أن تقترب منّي أو اقترب منك فيما بعد!
جنّ جنون النّورس وصاح:
يا لهذه التّرهات والخزعبلات! كيف تتجرّأ أن تتفوّه بمثل هذه الكلمات؟ وأنت تعلم أنّ لا مكان لك هنا.
اقترب منه وحاول نقره، ولكن الغراب فتح جناحيه موهما النورس بأنه سيطير، وانقضّ عليه ...فأزاحه من أعلى الصخرة إلى جانبها ووقف مكانه!.
أحسّ النورس بالإهانة والغدر، ولكن لم يعد بمقدوره أن يقترب منه وينتقم. فالغراب يجثم على القمّة مستهزئا به ومردّدا " لم يعجبك أن تقبل بي ضيفا مسالما، فأرني ماذا ستفعل الآن؟"
تلفّت النورس حوله وزعق ونعق... علّه يجد من النّوارس مَن تسانده وتساعده في التّخلص من ورطته ومحنته. ولكن، ما من مجيب... فأقام في المكان حزينا يندب أيام تربّعه على القمّة، مستمتعا بغدق النّعم عليه، ومفكرا بكيفية التخلّص ممّن عكّر عليه صفو حياته.
مرّت الأيام والسّنون، والغراب يزاحم النورس على ما تبقّى له ويتلقى النقرات منه . واذ به ذات ليلة، تأتيه أسراب من الغربان، يستأنس بصحبتها ويحثّها على البقاء معه. فغزت الشكوك قلب النّورس الذي خاف أن تهاجمه الغربان الجديدة وتخترق حدوده الضّيقة ففاجأ الغراب بسؤاله:
ما بال ضيوفك لا يريدون المغادرة؟ أطاب لهم المقام؟
أجابه الغراب بهدوء وثقة:
نحن معشر الغربان لا نعيش وحدانا بل زرافات نجثم، ليكون بعضنا سندا للبعض الآخر.ولسنا مثلكم، أمّة النوارس، تسكن كل مجموعة في عش، ولا تدري ما أصاب أعشاش وفراخ غيرها!.
عادت إجابات الغراب تستشيط غضب النّورس الذي قذف حممه في وجهه:
كيف تجرؤ على كلّ هذا؟ الا يكفي ما فعلت بي؟ أو تريد أن يفقس جشعك وتنتشر صيصانه، بحجّة المحافظة على اتحاد المجموعة؟
تضاحك الغراب وقال:
يبدو أنّ الغيرة قد انتابتك، كونك بقيت وحيدا كلّ هذه المدّة... بينما أقف أنا كالملك. وها هي حاشيتي حولي.
أحسّ النورس بنيران تتأجج داخله، فبدأ يندفع نحو القمّة؛ لينتقم من الغراب، لكنّه تلقى نقرات عديدة طالت معظم جسمه، فلم يستسلم وبقي مواجها! واذا بنسر يحوم فوق المكان وصفيره يملأ الجو متسائلا:
ما بكما أيّها الطائران؟ أستبقيان طيلة الوقت تختصمان؟ ألم أبلغكما مرّات عديدة أنّه يجب قبول الواقع الجديد، والعيش برضا ؟ ... أنصحك اأيّها الغراب أن تكتفي حاليا بالأعشاش الموجودة، لك ولضيوفك الجدد ،وألّا تتجاوز حدود النورس . وأعدك أيّها النورس أنني سأجد حلّا لمشكلتك مع الغراب.
وحلّق عاليا مغادرا الأجواء ... وكلما تجدد خصام الطائرين، عاود التحليق فوق الصخرة وجدّد وعوده !
ولا يزال النورس يا "جدّو" ينتظر الحلّ من النّسر...وتضايقه الوعود الكاذبة ومضايقات الغراب ...