..
رغم وفرة النصوص الكبيرة التي تنتشر في الواحة
وفي أقسامها المختلفة إلا أن هناك نصوصا تأبى إلا أن تفرض الرجوع إليها مرّات
إما للقراءة أو التعليق أو التحليل ونصوص كاتبتنا من هذا النوع من الكتابات
التي تلتصق وجدانيا بالقارئ ربما لأنها تتغلغل في عمق مشاعره تداعبها
وتلامس مواضع نزفها وألمها .
(بِرّ العُقوقِ )
العنوان رغم غرابته إلّا أنّ لسان حاله يتحدث عن مكنوناته،
فهو البرّ والعقوق الذي أكثر ما يأخذنا إلى التفكير بالوالدين والأولاد. تقديم كلمة على أختها في العنوان إنما له هدف خاص، وهو أن هذه الكلمة هي الأهم في تسلسل الأهمية للكلمات . وبالتالي يمكن التّرجيح أن الكاتبة تميل إلى أن من كتبت له أقرب إلى البرّ منه إلى العقوق .
(أَيُّها المُعَشِّشُ في خَلايا الفِكْرِ والرّوحِ ضارِبًا فيها أَطْنابَ مُسْتَعْمَراتِ الأَشْواقِ إِلَيْكَ ، تَجوبُ فيها فَتَجْعَلُها رَوْضَةً غَنّاءَ، تَعْزِفُ طُيورُها أَلْحانَ فَرَحِ لُقْياك ... وَتُغادِرُها فَتَنْعَبُ غِرْبانُ التَّحَسُّرِ فَقْدَ مُحَيّاك) ...
تبدأ المخاطبة لهذا المتّهم بالبرّ أو العقوق، ولسنا في صدد الحكم على ذلك في البداية رغم محاولة التكهّن كما كان في عرض فكرة العنوان، ولكنّنا نقرأ في البداية مكانة هذا الذي تحدّثه ومدى تمكّنه من نفسها، وذلك من خلال اختيارها لمفردات مثل " المعشش " و " خلايا الفكر والروح " .
إنّ هذا البارّ / العاقّ قد تمكن من نفسها وروحها وفكرها
وكلمة " المعشش " ترمز دون شكّ إلى أمرين: الأول أنها تشبّهه بالطائر وهذا الطائر لم يأتِ للزيارة فحسب، وإنما ليتّخذ من هذه الخلايا مسكنا ومأوى. والعشّ هو مكان لوضع البيض فهو مكان فيه الأمان والدفء والوطن وهذا الطائر المرحّب به قد ضرب أوتادَ هذه العلاقة، وهي الشوق. فكان كمن جاء مستعمرا المكان.
كل هذه الكلمات لها دلالاتها التي تفيد التّجذّر عميقا في تربِ النفس والتّمكن من تلابيب الفكر استعمارا، ولكنه استعمارٌ محبّذ وغير مرفوض. وهذا يدل على أن هذا الطائر ليس من صنف الجوارح بل هو أشبه بالحمامة التي تسرّ رؤيتها القلوب ويطرب هديلها الآذان .
وأقول إنه مرحّب به هذا الطائر بدليل ما يفعل وجوده في النفس والرّوح فهو يحولّها إلى روضة غنّاء.. والروضة اخضرار وحياة وجمال غنيّة بالثمار والأعشاب والأزهار .
أما الأمر الثاني الذي توحي به كلمة " المعشش " فهي الملازمة والاستقرار. فالعشّ لا يفارقه الطير لوجود صغاره فيه إلا لجلب الطعام أي لا يكاد يفارقه.
وتنتقل الكاتبة إلى عقد مقارنة كبيرة وجميلة ترسم المكان بريشتها فيها كما تريد هي وتجعل هذا الطائر البارّ / العاقّ والذي بدأتُ ألغي عنه فكرة العقوق تجعله هو العنصر الأهم في شكل ولون المكان، وفي كيفية رؤية الكاتبة لهذا المكان، بحيث جعلته يتحكّم في عينها ونظرتها ورؤيتها ,
فالمكان روضة غنّاء ما دام في هذا العشّ , والمكان يصبح قفرا موحشا بمجرّد مغادرته وغيابه عنه ولو للحظات، وهي تعلم أنه لن يغيب الا لحظات بناءً على ما تقدم من حديث , ولكنها في هذا الغياب البسيط يدخل العتم والخوف والوحشة .
وهنا تستوقفني مفرداتٌ أجدها لأول وهلةٍ متناقضة مع سابقاتها ككلمة "تغادرها " وكلمة " الفقد "، فكلا الكلمتان تفيدان الترك والرحيل دون العودة. وهنا التناقض, حيث كان ما سبق من مفردات وجودها يتطلب استخدام مفردات أخرى غير المغادرة والفقد؛ لتصوير الحالة بحيث تسمح تلك المفردات للطائر بالعودة . إلا إذا أرادتْ بذلك إظهار حقيقة أخرى تفرض نفسها في الواقع .
(رَسَمْتُ مَلامِحَكَ التي غابَتْ طَويلًا ، فَتَجَسَّدَتْ أَمامي وَجْهًا جَميلًا أَغوصُ في عَيْنَيْهِ وَقْتَ غاراتِ أَحْزاني، وَأَخْتَبِئُ بَيْنَ أَمْواجِ الزُّرْقَةِ، التي يُطَهِّرُني ماؤُها مِنْ بِراثِنِ الشَّكْوى، وَيَقيني آلامَ زَفَراتِ الحَسْرَة ... لكِنَّكَ، تَمَلُّ سِباحَتي سَريعًا، وَيَقْذِفُني مَوْجُ عَيْنَيْكَ إِلى الشّاطِئ؛ لِأَجِدَ عَيْنَيَّ قَدْ غَطَّتْهُما صُفْرَةُ الرِّمال، وَمُنِعَتا مِنْ رُؤْيَةِ الجَمال؛ فَأَجْلِسُ عَلى صَخْرَةِ الكَآبَةِ وَأَنا أَخَشى خَطَر الانْزِلاقِ إِلى الأَعْماقِ، وَأَسْمَعُ هُتافَ نورِ البَصيرَةِ يُناديني؛ لِيَضَعَ بَيْنَ يَدَيَّ مَجاديفَ زَوارِقِ الإنْقاذِ، فَيَزْدادُ حَنَقي، وَأَتَمَنّى لَو أَعَدْتَني إِلى شاطِئِ أَمْواجِ عَيْنَيْكَ لِأَرْتاحَ وَأَسْتَكينَ ...لأنّك الزّوْرَق الوحيد الذي أبغي..)
لا زلنا في جحيم الغياب والحسرة في سطور كالسفينة تأخذنا فوق موجٍ عالٍ تارة وضعيف منهار تارة أخرى , ولكنّ هذه السطور تأخذُ بأعيننا الآن لمتابعة مشهد آخر من الصراع، البحر والشاطئ ساحة له، وهو ليس أيّ بحر ولا أيّ شاطئ ,
إنّها عيناه هذا البارّ / العاقّ في مزج غير عادي .
تتحدّث السطور عن رسم، والرسم غير المشاهدة فهو نقل إما عن حقيقة أو خيال، مما يزيد الحيرة في النصّ حيث الحديث عن الملامح، والملامح لا تكون إلا لمن لا نعرفه محاولين أن نرسمه في دماغنا، أو عن من كان بيننا ثم غاب فطفقنا نستذكر تلك الملامح المرسومة أصلا في دماغنا .
وبعدها يأتي ما يبدأ بحل أول حلقات اللغز ، وذلك من خلال جملة " فَتَجَسَّدَتْ أَمامي وَجْهًا جَميلًا أَغوصُ في عَيْنَيْهِ وَقْتَ غاراتِ أَحْزاني " فاستخدام كلمة " تجسّدت " - أي أن هذه الملامح بعد رسمها- تجسّدت وجها جميلا. وإذا عدنا إلى فكرة أن اختيار المفردة كان بدقّة متناهية وبالتالي كان اختيار كلمة " تجسّدت " ليس عبثيا، وتذكرني بالآية الكريمة عندما تمثّل الرّوح لسيدتنا مريم العذراء بشرا " فتمثّل لها بشرًا سويّا"، ولكن هنا لم أجد تعوّذا بعدما تجسّد وجها لسببين: أن هذا الوجه كان جميلا كما أريدّ له أن يكون، والسبب الآخر أنّه من صنع ريشة الفنان وبألوانه؛ تلك الألوان التي دخلت في هذه الفقرة لتوجه الأنظار إلى قضية أخرى.
أعود إلى ذلك الوجه الجميل الذي أصبحتُ أقترب من القناعة أنه وهم وخيال إذا أخذنا الكلمة على محملها، كما فهمناها من القرآن الكريم، حيث تحدّثت الآية عن الروح والرّوح المذكورة في الآية إنما هي من العالم الميتافيزيقي، أو الآخر أو ما يسمى قرآنيا الملكوت ( وهو غير الملك فالمُلك ما كان محسوسا وماديا والملكوت ما كان غيبيا) .
الحزن هنا أتى على شكل غارات والغارات فيها التدمير والخوف والقهر، رغم أنها لا تكون مستمرّة. وبين الغارة والأخرى فسحة
إلا أن هذه الفسحة دائما تكون في انتظار الغارة القادمة فيكون وقت الغارة أهون .
وعند الغارة يختبئ الناس خشية الإصابة فليجؤون إلى مكان هو الأكثر أمنا، فكان اختيار الزرقة في العينين وهو اختيار موفق تشبيها للعينين بالبحر، والبحر فيه من العمق ما يحجب حتّى الضوء. وظاهر الهروب سببه كان كما ذكر التطهير.
والتّطهير لا يكون إلّا من ذنب فأيّ ذنب اقترِفَ هنا، إنه الشكوى والشكوى ليست ذنبا إذا كانت لله ربّ العالمين
كما قال سيّدنا يعقوب " وأشكو بثّي ... "
فهل كانت الشّكوى لمجرد التفكير بحق القدر في رسم طريق الإنسان ؟ أمْ كانتْ غير ذلك ؟ يبقى الجواب معلقا .
هذا العاقّ / البارّ يملُّ ضيفه ( ولهذا قدمتُ الآن العقوق على البرّ ) يملّه كما ملّ بطن الحوتِ يونس فقذفه إلى الشاطئ .
وأيضا هنا استخدام موفق للألوان وهذه لفتة ذكية في الاستخدام والمقارنة فالأزرق لون الهدوء والسكينة التي وجدتها في عينيه كالبحر، والصّفرة لون الوهج والنار والاضطراب والقلق وهي لون رمل الشاطئ حيث ألقاها، فكانت الرمال حجابا وسدّا. وربما أجدُ هنا شيئا عن إلصاق صفة العقوق.
وكما في البداية كان الاختيار موفقا كان هنا، فالكآبة قاسية كالصخر وسببها الحسرة التي أعادت ذكرها ليس تكرارا ولكنّه تأكيد حال .
بين السطور صراع بين النفس اللوامة والنفس الأمّارة بالسّوء وهو صراع بين الرضى والرفض. وإن كان كذلك فإنني أقرأ هنا سطورا لقلم روحانيّ هبّت عليه رياح اللّمز والوسوسة من الشيطان ليبتليه أيصبر أم يكفر .
(عَلَّقْتُ صورَتَكَ جِدارِيَّةً عَلى حائِطِ قَلْبي؛ كَي يُغَذّيها دَفْقُ المَحَبَّةِ؛ وَكَي تَكونَ الطَّبيبَ الذي يُجري لَهُ القَسْطَرَةَ إذا ما تَراكَمَتْ فَوْقَ شَرايينِهِ زُيوتُ الشَّوْقِ إِلَيْكَ؛ وَلِتُحافِظَ على وَتيرَةِ دَقّاتِهِ إِنْ شَوَّشَها ضَغْطُ مَحَبَّتِكَ ...
انتَظَرْتُكَ في بُهْمِ لَيْلِ الأَفْكارِ نَجْمًا هادِيًا، تُمْسِكُ بِتَلابيبِ الفِكْرِ، وَتُهديهِ الطَّريقَ السَّوِيَّ؛
لِكَثْرَةِ ما يَرِدُ جَحيمَ المَشاعِرِ الذي يَحْرِقُهُ بِشُهُبِ الحَنين، وَيُبْعِدُهُ عَنِ اليَقين، فلا يظْهَرُ ولا يّبينُ ..)
صورتان جميلتان أضيفتا لهذا الحبيب وهما: الأولى صورة الطبيب الذي يداوي الألم والجراح. لا نفكّر بالطبيب إلا لوجود العلّة والمرض , وهذا استنتاج لما آلتْ إليه الأمور بسبب هذا البعد من الألم والمرض.
أما الصورة التالية فهي صورة النجم الذي هو مصدر الضوء والدفء في ليل بهيم أرخى سدوله بسبب الغياب والفقد. وهذا استنتاج آخر يدل على ما وصل إليه الحال من التّوهان والضياع، الذي لا يكون في المجتمع الحضري المنار بوسائل الإنارة التي تهدي السالكين، وكأنّ الموقف كان في ليل صحراوي معتم وشديد البرودة رغم حرارة الشوق والحنين .
صراع آخر بين الشكّ واليقين ينتهي لصالح اليقين للاستدلال به على نتيجة المعركة النهائية في هذا الصراع النفسي الغريب .
انتصار اليقين موجود باستدعاء النجم الذي ما هزمه يوم ظلام. فالنجم من جند اليقين، والظلام من جند الشكّ، وهما فريقان قد ورد ذكرهما في هذه المعركة .
(أَرَّقَتْني الوَحْدَةُ وَغَرَسَتْ غيلانُها أَظْفارَها في أَحْشائي، فاسْتَحْضَرْتُ طَيْفَكَ لِلإقامَةِ والتَّطبيبِ ... وَما هِيَ إلّا دَقائِقُ حَتّى يَخْتَفي حُضورُكَ ؛ رُبِّما هازِئًا أو خائِفًا مِنْ مُواجَهَةِ غيلانِ الوَحْدَةِ التي تُغْمِدُ خَناجِرَها في دُروعِ السَّعادَةِ، إِنِ اقْتَرَبَتْ مِمَّنْ تَلُفُّهُم بِرايَةِ تَعاسَتِها ، وَتَتْرُكُها تَنْهَشُ كِياني وَتَحْتَلُّ أَفْكاري، وَتُوَلّي ...
سَهَّدَتْني المُتَمَنَّياتُ قابِضَةً عَلى حُروفِها، وَمُحْكِمَةً الإِمْساكَ بِميمِها وَتائِها؛ لِئَلّا تَدورَ عَلَيْهما الدَّوائِرُ فَتَفْلَتا وتَسْقُطا، وَتُلْغي المَنِيّاتُ بَهاءَ وُجودِك الوّهْمِيّ... )
سلسلة أحداث ترسم ملامح اللحظة في مقابلة مؤلمة بين موقفين: الأول موقف المحتاج للشيء الفاقد له، وموقف من يملكه ويبخل به وهنا بيت القصيد، فحالة الأرق والسّهد في ( أرقتني , سهّدتني ) والحاجة إلى الخروج منها ومن ثم التّمسك بأن هذا الحبيب هو السبيل هو البرّ بعينه لأن فيه الإصرار على أنّ هذا الحبيب هو الملجأ في النوازل، بينما كان موقفه عكس التوقعات عندما لم يُجِرْ من استجار ومن هو الأحق بهذه الاستجارة كما جاء في (يَخْتَفي حُضورُكَ , وَتَتْرُكُها تَنْهَشُ كِياني , وَتُلْغي المَنِيّاتُ بَهاءَ وُجودِك الوّهْمِيّ ) وهنا يكمن العقوق فكان البرّ من الطرف الأول، والعقوق من الطرف الثاني وهو الحبيب المغادر .
(سَهَّدَتْني المُتَمَنَّياتُ قابِضَةً عَلى حُروفِها، وَمُحْكِمَةً الإِمْساكَ بِميمِها وَتائِها؛ لِئَلّا تَدورَ عَلَيْهما الدَّوائِرُ فَتَفْلَتا وتَسْقُطا، وَتُلْغي المَنِيّاتُ بَهاءَ وُجودِك الوّهْمِيّ)
قدرةً كبيرةً على اللعبِ بأوراق الحروف وخلطها كأنها ارقام تطرح منها، وتضيف لها كما شاءت من الحروف لتصنع أفكارا جديدة مستحدثة، وهذا الاستخدام للجناس بين المتمنيّات والمنيّات، وهذه الصورة الإبداعية التي جعلت للمتمنيات يدا من حديد تقبض على حرفين مهمّين إن أفلتا فقدت الكلمة معناها، وذهب المعنى إلى ضدّه فأصبحت المتمنيات.
(اخْتَطْتُ مِنَ اللَّهْفَةِ لاحْتِضانِكَ، عَباءَةً حَريرِيَّةً تَلُفُّني وَإِيّاكَ، وَتَمْتَصُّ وَهَجَ الشَّوْقِ فَيُدَثِرُني نَسيجُها، وَيَبْسُطُ نُعومَةَ خُيوطِهِ...
لكِنَّكَ، أَبْقَيْتَ اليَدَيْنِ في رَجْفَةٍ، تَحْتَضِنانِ شَوْكَ عَباءَةِ النَّكْسَةِ التي زَمَّلَني بِها صَدُّكَ ...
عَزَفْتُكَ لَحْنًا تَرْقُصُ عَلَيْهِ مَشاعِري، فَرَقَصْتَ عَلَيْها، وَعَزَفْتَ أَلْحانَ الاغْتِرابِ والجَفاءِ، وَحَوَّلْتَ الطَّرَبَ إِلى حُزْنٍ وَعَناءٍ ...
هاتَفْتُكَ عِنْدَما هاجَتِ الحَواسُّ وَماجَتْ، وَعِشْتُ فَوْضى شُعورِيَّةً عارِمَةً أَتْعَبَتْني؛ فَسَمِعْتُ حَشْرَجَةً زادَتْ مِنْ حالَةِ الهياجِ،
وَأَقْعَدَني القَلَقُ عَلى كُرْسِيّ الدُّعاءِ لَكَ بِأَنْ تُرَدَّ لِصَوْتِكَ المَوْجاتُ التي تُريحُكَ، وَتُداوي قَلَقي ... وَأَقْبَعُ مُنْتَظِرَةً سَماعَ صَوْتٍ تُشَنَّفُ بِهِ الأُذنان، وَتُخْمَدُ نيرانُ الأَشْجان...
تَوَهَّمْتُكَ في صَيْفِ الأَفْراحِ عَريسًا تَدعوني لِرَقْصَةٍ "زورْبِيّة" تُنْسيني تَقَرْفُصَ وَجُمودَ الشِّتاءِ وَصَقيعَهُ،
وَتُرْسِلُ أَفْراحي مُحَلِّقَةً في سَماءِ البَهْجَةِ... لكِنَّكَ، أَبْقَيْتَ عَواطِفي مَقْرورَةً، وَطُموحاتي مَحْمومَةً بِحُمّى القُعودِ في زِوايا اللافَرَحِ ...
ناجَيْتُكَ في صَباحاتِ الأَعيادِ مُفَرْقِعًا الفَرَحَ، وَعازِفًا أَلحانَ الطَّرَبِ ،وَمُضيئًا لِفانوسِ السَّعادَةِ، وَناثِرًا الحَلْوى عَلى مُرّي،
وَمُسْتَبْدِلًا نَعيبَ البومِ الذي حَطَّ على شَجَرَةِ فِكْري، بِعَنْدَلَةِ العَنادِلِ الجَميلَةِ ... مَرَّ طَيْفُكَ وَلَمْ أَسْتَطِعِ الإمْساكَ بِهِ . )
سلسلة أخرى من الأفعال الماضية لكنها هنا لم ترسم اللحظة كما سابقاتها ولكنها ترسم هواجس النفس في تلك اللحظة
في مجموعة كلماتٍ لها الجرس الموسيقي ذاته وله وقع الهزّة كمن يمسك بذراعي آخر ويهزه حين يخاطبه، ورغم أنّ هذا الحبيب البارّ هو من الوهم المحال إلا أنّ الحديث كان بلغة المخاطب.
الاشتغال على اللغة في الفقرة الأولى من مجموعة الفقرات واضح في هذا الربط والتوافق بين كلماتها (اخْتَطْتُ ، عَباءَةً حَريرِيَّةً تَلُفُّني ، فَيُدَثِرُني نَسيجُها خُيوطِهِ ، زَمَّلَني ) بما يخدم الفكرة المرجوّة، وربما لتنطلق إلى الفقرة القادمة التفسيرية لما قبلها عندما بدأت تفكك خيوط اللغز وأول هذه الخيوط جملة " أي بنيّ" .
(أَي بُنَيّ ... تَخَيَّلْتُ.. هَمَسْتُ.. قُلْتُ.. نادَيْتُ.. صَرَخْتُ.. هاتَفْتُ.. هَذَيْتُ..
ناجَيْتُ طَيْفَكَ وَاسْمَكَ يَوْمَ تَحَلَّقَ الأَبْناءُ حَوْلَ أُمَّهاتِهِم مُحْتَفِلينَ جَذِلينَ، فَلَمْ تَسْمَعْ، وَلَمْ تَلْتَفِتْ، وَلَمْ ...
وَارْتَدَّ الصَّدى يُلاطِمُ جَنَباتِ روحي وَإِحْساسي، وَاحْتَضَنْتُ خَيْبَةَ أَمَلِ مَجيئِكِ بِذراعَيّ القَهْرِ،
وَأَطْبَقْتُ شِفاهَ قُبُلاتِ الوَهْمِ عَلى الجَفافِ؛ شاكِيَةً مُحالَ التَّرطيب وَبُعْدَ التَّرْحيب ) ...
" أي بنيّ " إذن هذا هو الحبيب البارّ / العاقّ الذي كان له كلّ الهتاف والشّوق والمناجاة (تَخَيَّلْتُ.. هَمَسْتُ.. قُلْتُ.. نادَيْتُ.. صَرَخْتُ.. هاتَفْتُ.. هَذَيْتُ.. ناجَيْتُ طَيْفَكَ )
فكان هذا أول أبواب العبور إلى الفهم فهو الابن إذًا ..
وتتالى انهيارات السدود وتبدأ الأبواب المؤصدة للنصّ بفتح نفسها بنفسها عندما يوصف هذا الابن بأنه طيف، وخيبة أمل توحي بالفقد أو عدم الوجود.
وما يهمّ أنه غير موجود وذلك يتأتى من استخدام كلمات ( الطيف، الوهم، ارتداد الصدى، ذراعي القهر، محال الترطيب وبعد الترحيب )
فهذا لا يكون لموجود أبدا، خصوصا أنّ هذا الطيف كان قد مرّ ولكن دون الإمساك به.
(وَبَقيتُ واجِمَةً وَقَدْ أَخْرَسَني عُقوقُكَ الذي أُسامِحُكَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ القَدَرَ أَقْعَدَكَ عَنْ بِرّي حينَ عَقَني بِتَغييبِكَ عَنّي لِحِكْمَةٍ شاءَها... حِكْمَةٍ بَذَرَتْ في داخِلي بِذْرَةَ يَقينٍ أَخْبَرَتْني وُرَيْقاتُها التي أَيْنَعَتْ بَعْدَ حينٍ، وَنَجَحَتْ في الوُقوفِ بِوَجْهِ الرّيحِ ، أَنَّ تَقَبُّلَ عُقوقِكَ هُوَ بِرُّ بِرَبِّ العالَمين...
وَهُوَ البِرُّ العَظيمُ... وَأَنَّ عَقْلانِيَّةَ اليَقين تُحَتِّمُ أَنْ تُهْزَمَ شَهْوَةُ الحَنين ).
هذه الفقرة تلخّص ما كان، وتضع الإصبع على موضع الجرح،
وكذلك تظهر حقيقة البرّ وسبب العقوق. فهو القدر الذي قررّه وأصدر حكمه مسبقا بتغييبه رغما عنه. وهذا هو العقوق الجبريّ، أو كما صُوّرَ بأنه عقوق القدر ليس لأن القدر عاقّ وإنما لأنّ القدر كان سببه . فهو عقوق لأنّه لم يبرّ كما يبرّ الأبناء ولكنه لم يبرّ بسبب الأغلال التي وضعتها الأقدار في يديه، وتلك الحواجز التي حالت دون قدومه ليقوم بفعل البرّ،
وبالتالي كانت المسامحة لأنه لو أتى لكان بارّا كما أرادت ريشة الكاتبة عندما قدّمت البرّ على العقوق .
..
بقلم م : رفعت زيتون
1 \4 \2011
القدس
.