حول القصة الشاعرة .. التأصيل والتقنيات
* التأصيل
القصة الشاعرة جنس أدبي جديد يلج إلى باحة الأدب العربي ليضيف لبنة جديدة إلى لبنات البناء الشعري ، فمنذ أن عرفنا الشعر وهو شطري في طبيعته السماعية والكتابية وما لتلك الطبيعة من خصائص أبرزها وحدة البيت والنفور من التضمين ولاسيما الإعرابي منه ، ليلحق به نظام الأغصان في الموشحات ليتحرر شيئًا من رتابة التشكيل الموسيقي للنظام الشطري ، ثم نلتقي في مفتتح القرن العشرين بالنظام السطري المعتمد على ما سمي بالدفقة الشعورية في تحديد امتداده ، وتأتي القصة الشاعرة التي لقيت مؤخرًا إقبالاً إبداعيًا وقبولاً نقديًا لتضيف نظامًا رابعًا هو النظام الفقري الامتدادي .
وهنا نرى حركة معاكسة لما يسمى في الساحة الأدبية بقصيدة النثر ، فإن كانت هذه قد استعارت من الشعر آليته الكتابية حسب النظام السطري وأغفلت تفاعيله ، فإننا اليوم نرى القصة الشاعرة تأتي لتعكس الأمر فتحتفظ بتفاعيل الشعر المطلقة وتستعير من النثر طريقته الكتابية القائمة على الفقرات ، فكأننا انتقلنا من قصيدة النثر إلى نثر القصيدة .
كما إن في هذا النظام الفقري تشبهًا بالنظام الامتدادي النثري للقرآن الكريم ومع ذلك فإنه مضبوط نغميًا بصورة إيقاعية إعجازية لا يمكن بطبيعة الحال حصرها في وحدات وزنية والبناء عليها ، ومن ثم اختار النظام الفقري للقصة الشاعرة التفاعيل الخليلية المنضبطة والمحددة ليشكل موسيقاه أسوة بغيره من الأنظمة الشعرية التي سبقته .
كما حقق هذا الجنس الأدبي الجديد أمرًا جديدًا بإدخال القصة إلى الصناعة الشعرية ، بمعنى أننا لم نعد نرى قصيدة تحكي قصة ، بل نرى ابتداء قصة موزونة أو شاعرة ، وذلك بعد أن اقتصر الأمر طويلاً على المسرحية التي هي جنس أدبي مشترك بين الشعر والنثر بحسب طريقة تشكيلها ، وفي إطار الشعر انتقلت من طور النظام الشطري إلى طور النظام التفعيلي ، حتى اقتربت من فكرة القصة الشاعرة ، وتميزت هذه باصطناع التدوير شرطًا أساسيًا لها يقتضيه نظامها الفقري .
وعلى ضوء ما سبق نرى أن فن القصة الشاعرة الذي ابتدعه الشاعر المصري محمد الشحات محمد يندرج ضمن الأجناس الشعرية ، حيث أضاف إلى مسار تطور الشعر العربي ، كما أرى ، ملمحين جديدين هما نظام الكتابة الفقرية للشعر ، وشعرنة القصة لنضم إلى أختها المسرحية في البناء الشعري المحلق .
** حول تقنيات القصة الشاعرة وقيودها الفنية :
الموسيقى :
استفادت القصة الشاعرة من تقنية النظام السطري في الاعتماد على التفعيلة لبنائه النصي ، ونرى بعض النقاد يدعون إلى الاقتصار على تفعيلة واحدة في صياغة نصوصها الشعرية ، ولا أرى ذلك لازمًا بل بالإمكان الاستفادة كذلك من تجربة النظام السطري في التعامل مع التفعيلات المتنوعة مثل المزاوجة بين التفعيلات المتداخلة ، بل إنني لا أرى ضيرًا من الجمع المطلق بين جميع التفعيلات المعروفة في القطعة الواحدة بحيث لا يخلو أن يمثل مقطع من كلماتها تفعيلة ما ، ويسهل هذا الأمر الطبيعة الامتدادية الفقرية لهذا النوع الشعري .
الفقرة :
يرى بعض نقاد هذا الفن الاقتصار على فقرة واحدة بوصفها دفقة شعورية ممتدة ، لكنني أرى إيجاد مصطلح مغاير للدفقة الشعورية المرتبط بالنظام السطري ، واختيار مصطلح آخر مناسب للنظام الفقري هو الانسياب الشعوري ، ومن ثم فإني لا أرى ما يمنع من تعدد الفقرات ، مع الالتزام بقصر العمل المبدع عمومًا كما تقتضيه طبيعته المكثفة ، ومن ثم لا بأس في التفعيلة الأخيرة من كل فقرة أن تستفيد في تكوينها من جوازات تفاعيل الضرب في القصيدة الشطرية .
القصة :
يحمل هذا الجنس اسم القصة الشاعرة لكن نقاده ربطوه بنوع واحد من القصة هو القصة القصيرة ، بحيث تشمل القطعة منه تقنياتها المتعارف عليها ، لكنني أحب أن تكون صفة القص مطلقة لهذا النوع بحيث يشمل القصة القصيرة بجميع تقنياتها ، كما تتسع لأنواع أخرى كالصورة القصصية والمقالة القصصية ، على أن يكون شرط القصر شرطًا كميًا يقوم على التكثيف اللغوي بكل صوره التي يختارها المبدع من إيجاز أو رمزية أو نحو ذلك .
وعلى ضوء ما ذكرته ينبغي الاتساع مع المبدع في تفاعله مع هذا الجنس الأدبي في موسيقاه وشكله ومضمونه بتحريره من أي قيود خارجية ، حتى تبقى كلمة الإبداع فيه هي العليا ومن ثم تحقيق أكبر قدر من إقبال الأقلام المبدعة التي هي وحدها من سيمد هذا النوع بمادة الحياة والنمو والانتشار .
د. أحمد هادي باحارثة – اليمن / حضرموت