بين عشيّة وضحاها
تعالت التّكبيرات، وملأت الأجواءَ إيمانا وفرحا... وبدأ النّاس يهرولون صوب المسجد، والبسمات تسطر وجوههم، حين زلفوا صوب بيتنا لمرافقة أبي إلى المسجد.
وقبل أن يصلوا المسجد، ابتلعت صرخات أمّي التّكبيرات، ودوّت موقظة النّيام، ومجبرة المصلّين على العودة إلى بيتنا؛ راكضين، ووجوههم تتشكّل عليها أمارات الخوف والقلق...
كانت أمّي تجوب ساحة البيت صارخة، ولاطمة، ومولولة... ابني ... عزيز ... وحيدي... حبيبي...
ذهل والدي لمرآها، وأدخلها البيت لمعرفة ما يجري... اقترب من عزيز، حاول إيقاظه، لكنّه، لم يستيقظ. ضرب كفّا بكفّ... سالت دموعه مدرارة... وعندما دخل الرّجال، مسحها بسرعة، وبدأ يحوقل، ويقرأ آيات قرآنيّة.
خرج الرّجال بصحبة أبي إلى ديوان العائلة، الذي يبعد أمتارا عن البيت، وظلّت أمّي مع بعض النّسوة تعدّد وتنوح: "لهفي عليك يا بنيّ... لقد اختارك المرض يا غالي لتكون الأضحية في يوم الأضاحي..."
بدأت الّنّساء بالتّوافد إلى بيتنا، وأنا وأختي ابنة السنتين جالستان في إحدى زوايا الغرفة، أنظر إلى والدتي، وأحاول أن أقلّدها في حركاتها وبكائها، ولكنّي لا أفلح سوى في ذرف الدموع؛ مقلّدة النّساء الأخريات، في حين تسألني أختي متّى سنلبس ثياب العيد؟.
انتهت أيام الحزن الثّلاثة، ونزيف عيونها لا يتوقّف، فيما كلماتها تتعثّر، وهي في طريقها إلى خارج الفم، فتسمع متقطعة وبصوت مخنوق...
عادت النّساء كلّ منهنّ إلى بيتها، وبقيت أمّي وحيدة، ونسيت أنّ لها طفلتين تقضيان معظم الوقت نائمتين، ولا تفهمان ما يجري سوى أنّ "عزيز" لم يعد موجودا في البيت يتألم مرضًا.
أفقت فجر اليوم الرّابع على صوت بعض النّسوة والرّجال، وهم يتداولون فيما بينهم: لقد جنّت أم عزيز... كان الله في عونها... لفّ الحزن عقلها بغشاوة... فيما مجموعة من الغرباء يعيدون أمي إلى البيت، وينصحون أبي- الذي لامه الأقارب على إبقائها وحيدة في البيت- باستدعاء شيخة لترقيها، وتقرأ عليها القرآن، وأمّي تقسم لهم أنّها ليست بمجنونة، وأن ما ترويه لهم عن سبب غيابها هو حقيقة وليس وهمًا.
تضاربت الآراء، وتنوّعت النّظرات، بين مكذّب ومصدّق، وحملقت العيون دهشة، وبثّت إشعاعات الشفقة على ما آلت إليه أم عزيز... إلى أن أصبحت أمّي بين عشيّة وضحاها أشبه بقدّيسة، يتوافد إليها النّاس من كلّ حدب وصوب، بعد أن زارتها مجموعة من ذوي العمائم الخضراء، يهلّلون، ويكبّرون، ويضربون الطّبول والدّفوف... تقدّم أحدهم وناولها كأس ماء شربتها، والكلّ متحلّق حولها يبسملون... ومسح عليها بكفّ البركة؛ لتصبح بعد حين نواة كل البركات... وأنا أنظر إلى ما يجري حولي، وأظنّه طقسا جديدا من طقوس العيد، ستلبسني أمّي بعده أنا وأختي الثّياب الجديدة، وظننت أنّ هذا الاحتفال الخاصّ سيعيد لنا "عزيز" ونفرح ونحتفل بالعيد... لكنّه، لم يعد ولم نبتهج، بل زاد همّنا بعد ذلك؛ لأنّ أمّنا غفلت عنّا، وسرق اهتمامها ووقتها مَن جاء طالبا منها العون... من مريض، ومحسود، وعقيم، وفقير...
وكبرت، وفكري يحاول فك (شيفرة) حكاية أمّي التي نسيت بسرعة ابنها وحزنها عليه، وأصبحت (شيخة ) يؤمّها القاصي والداني، عقب زيارة المهلّلين ضاربي الدّفوف بعد أن نُعتت بالمجنونة التي فقدت رشدها بفقد ابنها ...
وسكتنا عن تحوّل بيتنا إلى مزار للتبرّك من والدتي، إلى أن أغاظني، يوما، تصرف قاس بدَرَ منها، فصحت بها:
"أنت أمّ للآخرين، ولست أمّا لنا أنا وإخوتي. لقد نسيت أخانا الذي فضّلته علينا في حياته، وفضّلت غيره عليه بعد مماته".
أحزنها وأزعجها ما سمعت، وهمّت بتوبيخي؛ إلّا أنّ دموعها كانت أقوى توبيخ لي بعد الصّمت الذي لازمها دقائق، وتأنيب الضمير الذي داهمني، فرُحت أعتذر لها... وبعد لحظات صمت حارقة، طلبتُ منها حلّ لغز ذلك اليوم الذي حوّلها إلى إنسانة أخرى.
أصابها الوجوم، وثّبُتَت عيناها محدّقتين في التّلّة المقابلة للقرية. راعني أنها ستعاود البكاء، لكنّها، ابتسمت ابتسامة غريبة أَضفت على وجهها نورا لم أره من قبل، وبدأت تسرد لي القصّة التي حيّرتني سنين:
سمعت طرقا على الباب، وقد أخذ الحزن منّي كلّ مأخذ، ولم أقوَ على النّهوض لفتحه، سمعت صريره، وأنتظرت كي يدخل الطارق، ولكن ما من أحد.
لحظات وتتلقف أذني صوتا غريبا: هل تريدين رؤية ابنك عزيز؟
لا أدري من أين جاءتني القوّة كي أركض صوب مصدر الصوت، وإذ بي أرى عمودا من النّور يمتد للأعالي، وله ذراعان تحتضنان ابني، صرخت واقتربت لأنتزعه من بينهما.
فقال لي:
"إن كنت تريدين رؤية ابنك "عزيز"، فاتبعيني بصمت".
لم أدرِ كم من الوقت هرولت خلفه إلى أن وصل المقبرة البعيدة عن القرية والتي دفن الرجال فيها ابني الذي أراه أمامي.
أجلسني من رافقته، تحت شجرة غريبٍ نوعُها... وبسرعة البرق جمع حزمة من الحطب وأشعلها، وحاول إلقاء ابني فيها. اقتربتُ منها فزعة، وحاولتُ الإمساك بقدم ابني؛ كي أمنعه من إلقائه في النّار، فصرخ بي وهدّدني قائلا: "أترين هذه النيران؟! أنت تحرقين ابنك فيها كلّ الوقت مذ غادرك. أتحسبين نفسك أنّك الوحيدة التي فقدت ابنها؟ أتعترضين على حكم الله؟"
ثمّ أخذ حفنة من تراب وذرّها فوق القبور التي أضاءتها النّيران المُشعَلة، فجلس من كان داخل القبور فوقها... كانوا أناسا كثيرين ومن أجيال مختلفة. أمسك بي وقال: "أترين هؤلاء؟ أنت تزعجينهم ببكائك، إضافة لحرق ابنك"... أخذت أتوسّل إليه بألّا يحرق ابني، وأعده بعدم البكاء مقابل ذلك.
اقترب من قبر مفتوح، ووضع فيه ابني، وأنا أحسّ أني أدفن معه كلّ دمعاتي، حتّى رأيت القبر قد تحوّل إلى بركة من الدّموع السّاخنة. وبعد أن أغلق القبر سمعت صوتا يناديني قائلا: "أيّتها الدّنيوية! بلّغي أهلي في دنياك هذه الأمانة... أنا فتاة بريئة، قُتلتُ، واتّهم الناس أخي- الذي لم يفلح في تبرئة نفسه- أنّه قتلني حفاظا على شرف العائلة، وها أنا أتعذّب بسبب ظلمهم له، فأخبريهم أنّ قاتلي هو شابّ قتلني دون عمد".
لم أعرف بما أجيب، وأنا التي أدور في دائرة ابني وما يحصل له... وما كان منّي، بعيد لحظات، سوى أن أقول لها: "من سيصدّقني؟ فأنا غريبة ولا يعرفونني".
طلبت منّي الاقتراب، فاقتربتُ. قالت لي: "خذي هذا المنديل الأحمر الذي لفّوا به رأسي". تناولتُه ويدي ترتجف، فاقترب منّي مَن دفن ابني قبل قليل، ولفّه حول معصمي، وطلب أن أنفّذ ما طلبته الفتاة... فجأة اختفى وأطفئت النّيران... نظرت حولي ولم أر سوى قبور مظلمة وحركات أشباح، والصّمت يلتحف المكان؛ إلّا من عواء الرّيح الذي يمتزج وعواء الذّئاب... فصدرت عنّي صرخات سمعْتُ صداها نعيقَ بومٍ... وصرت أتخيّل أنّ الذئاب تحاول الاقتراب منّي لتمزّقني، حتّى هرع إلى المقبرة رجال يحملون الفوانيس والعصيّ...
لا أذكر ما الأسئلة التي وجّهت لي، ولكنّي أذكر كلمة واحدة كنت أكرّرها وهي اسم قريتي.
رافقوني حتى وصلت مشارف قريتنا؛ لأجد والدك وأقرباءه يبحثون عنّي. فلما رأوني، اتّهموني بالجنون، ولشدة إرهاقي وحزني، لم آبه لكلامهم، وانتشر الخبر بين أهل القرية بأني مجنونة، إلى أن فطنت بالأمانة، فطلبت من والدك أن يدعو والد الفتاة صاحبة المنديل، بعد أن قصصت على مسامعه ما قالته لي ابنته، وأريته المنديل الذي فككته عن يدي وسلّمته إيّاه، فكاد يغمى عليه، بعد اقتناعه بأنّي كنت مجنونة.
حضر والد الفتاة، ولما رأى المنديل ذهل وبدأ يصيح، ويقرّ بأنّ ما أقوله حقيقة... ورحل...ليعود في اليوم التالي مع فرقة ذوي العمائم الخضراء؛ كي يكرمني ويزيل عنّي قسوة ما عانيت... وكان نِعْمَ الإكرام!...
أحسست أنّني بحاجة إلى من يكرمني بعد هذا الذي سمعت، وأشفقت على والدتي، وخفت أن تكون مصابة بمرض الهلوسة، منذ ذلك الوقت، ولم يدرِ أحد بمأساتها!.
ترى هل أخبرتني بكلّ هذا؛ كي تريح نفسها من عتاب وتساؤلات أخرى قد أطرحها، أم أنّ هذه هي الحقيقة؟!...