فضولية الإنسان وليدة الذات ، وقديمة منذ بداية الخليقة ، وحب المعرفة جوهر الإنسانية ، ليقتني في جعبة أفكاره خيال الوهم إذا تمكن منه .
هذا ما حدث ذات يوم ، وقد بعث في نفسي شيئاً من القلق الدائم . وأثار فضولي لأبحث عن المجهول في شوارع المدينة ، وفي أجمل بقعة منها . ولم ينطوِ إلى ذهني ما قيمة تلك المنطقة في كل زمان ومكان . إنها تعج بالحركة اليومية … ليلاً ونهاراً … حيث المحال التجارية الكبيرة ، وشركات النقل التابعة لأكثر من قطر عربي أو أجنبي ، بالإضافة إلى فنادق الدرجة الأولى ، والمقاهي الرفيعة ، و دور السينما التي تزدحم على طرفي الشارع الطويل ، وهناك الكثير .وإذا أخلصنا في *التعريف ، نرى جمال الطبيعة في أبهى مظاهره ، يجمع بين العقل والعمل ، ويظهر العلم بصورة البناء والفن … تلك هي الحدائق الغنّاء التي تزيّن المدينة الكبيرة ، تتوسطها نوافير المياه ، لتسحر الناظر ، وتلطف من حرارة الجو في هذه الأيام الصيفية . إنها مرتع المصطافين ، وروضة البلابل ، تغرد وتغني للحياة .
لقد ارتفع علم البلاد خفاقاً في سمائها ، ليمد ذراعيه ، ويحتضن تراثنا العربي ، ويخلد حضارتنا العريقة ، في متاحفها التي تستقبل الزوار من كل مكان .لا شك أنها المدينة الساحرة … المدينة الجميلة … محط أنظار رواد المعرفة ، والباحثين عن الماضي في سجلات التاريخ . كما أنها مدينة الإنسانية ، ومجد الزمان في صفحات الدهر .
ما هو العجيب في الأمر ؟… وتلك هي صفات مدينتنا الغالية .
إن أغرب ما يحدث في حقل التجارب الإنسانية ، أن نجد من يعيث في الأرض فساداً ، ويشوه سمة البلدة الكبيرة ، ويغير من ملامح التاريخ في صورة الواقع ،ويعطيها الصبغة اللاحضارية ، ويطعن حضارتنا ، وفضائل أخلاقنا ، بانحرافه ، وشذوذه .
* * *
تجاوزت الساحة العامة التي تفصل المتحف الوطني والمركز السياحي ، متجهاً نحو أكبر شارع في المدينة ، لأقضي عملاً كنت أنوي القيام به في تلك الوهلة من الليل ، والساعة تقارب العاشرة ليلاً . لفت انتباهي ، و أرهفت السمع إليها ، كلمات أثارت فضولي ، وجعلتني أنظر حولي لأبحث عن مصدرها ، فإذا بجمع من الناس ، يخيم عليه لغطٌ لا يفهم فحواه . اقتربت منه أستطلع الخبر ، وما أن وصلت حتى هفت إلى مسمعي هذه العبارة – لأول مرة في الأسواق بليرة – ماذا في الأمر ؟… حاولت الاقتراب أكثر فإذا بلكمة عنيفة في خاصرتي ، وأخرى تلتها على كتفي … وأخرى … وأخرى حتى كادت نظارتي تسقط على الأرض . ولم أفكر بالتراجع لأنني عزمت أن استطلع الأمر ، ففعلت كما يفعل الآخرون ، حتى وصلت إلى مقربة من المركز فرأيت أمام ناظري – بطاقة معايدة كما يطلقون عليها -صورة إباحية بيد أحد المحتشدين ، وقد تناولها من البائع .. كذبت الأمر لأول وهلة ، وظننت أنها مبادلة بينهما . واقتربت أكثر فأكثر دون أن أبالي بأن قدمي قد نزفت ، و بنطالي يلزمه عملية رتق ، وقميصي يلزمه تنظيف .
شعرت بالأمان لأني وصلت إلى منشودتي ، وعندما لامست قدماي قوائم طاولة ، وقد طرح فوقها صور شتى لفتيات عاريات ، بأشكال ، وأوضاع مختلفة ، تمتد إليها الأيدي ، وتتحسسها الأنامل ، وتختار ذات الإحساس المرهف ، والجاذبية المطلقة . تتسلل يد البائع لتقبض ثمنها ، ويسعى سيدها نحو شاطئ الأمان ، لينفرد بجاريته ، وكأنما قد زفت إليه فتاة الربيع ، أو عروس البحر .
جحظت عيناي ، وصمت أذناي ، وعلت الحمى إلى رأسي ، وانتابتني صرعة من الدوار ، خلال لحظات ، وأنا وسط الزحام .
صحوت وأفكاري مثقلة بالنوازع النفسية ، والأراجيح الفاسدة ، و أنشدت النجاة لأهرب إلى الحياة من جديد ، وأهمس في أعماقي …
ضاع كل شيء …
ضاع كل شيء
…
مجموعة مشاعر في سطور
مذكرات مع الأيام
حلب 1975