الكريمة ربيحة الرفاعي:
ما كان لي من أرب فيما فعلت إلا الخير والود وتقدير النص وصاحبه حين ألتفت إليه بعمق وعناية ، وليس لي من أرب أن أغضب أخا أقدره وأحمل له الود ، وحين وجدته منزعجا رافضا لمداخلتي فكأنه تقال المدح واستثقل النصح فرأيت أن أصمت عما تحدثت عنه حرصا على صادق الود وعابق الإخاء خصوصا وقد رأيت في النصح تأكيدا لهذا ورأى أخي الكريم مكي عكس ذلك كما استشعرت ، وخصوصا أن أخي مكي عاد للرد ولم يشر برغبته على ما سألت من مدى رغبته بالعودة بنصحي.
ولأن مثلك بهذا التواضع الجم وأنت الشاعرة التي لا يكاد يشبهها أحد ، ولأن مثلك لا يرد له طلب ، ولأن أخي مكي يظل عندي كريما كبيرا فإني أعود برأيي راجيا أن يكون فيه النفع والفائدة المرجوة.
الأخ الكريم والكبير مكي:
أنا أخي من يستغرب أن تتهمني بأنني أثيرت حفيظتي ففيم ولم؟؟ أنا كما شرحت ما أردت إلا إظهار الود وممارسة ذات المنهج المعتمد في الواحة منذ أكثر من عشر سنين ، والتناول النقدي يكون عادة في مستويات مختلفة فما نصفق له من شاعر عادي لا نقبله من شاعر متميز ، وما نرضاه من شاعر متميز لا نقبله من شاعر كبير ، وحين يكون النقد إنما يكون على قدر الشاعر وقدر حرفه.
وأنت أخي الكريم لست بحاجة لإثبات شاعريتك الكبيرة فإنا نعلمها ونشهد بها ، ولك أن تقول ما شئت عن نفسك وعن شعرك ، ولكن لا أجد الافتخار بالارتجال أمرا مستحبا فكل الشعر ارتجال ثم قد ينقحه البعض من باب العناية ويحمد أمثال هؤلاء ، ثم إن ردي كان مدحا كريما وليس استخفافا أو استقلالا لا سمح الله. ومهما يكن من أمر فإني وكما قلت لك فالود عندي أهم مما سواه ، وأرجو أن يكون فيما سأقوله هنا ما يخدم النص ويحقق النفع والفائدة للجميع كما قلت أنت.
بداية دعني أختار ما رأيتهن أبيات ثقيلات في ميزان الشعر لرقي المبنى والمعنى والتناسق البنائي والجرسي مع المعنى وبين الصدر والعجز:
ذرفتني السماء نجمةَ شعرٍ = لمّتِ الضوءَ من بقايا زوالِ
حين يهمي الظلامُ مُزنَةَ شوْقٍ = أنزوي خلفَ أحرفي وابتهالي
لن تنامي على أسرّةِ وَرْدٍ = إن زرعتِ الأشواكَ في أوصالي
أقصِري عنْ لجاجةِ الشّكّ يا من = فيكِ أُنثى تضمّخَتْ بالجمالِ
دعْكِ منْ حُرقةِ اللظى في جنوبي = واسكني الثلجَ في أقاصي الشمالِ
أشرعَ الدهرُ بابَهُ لرؤانا = لا تجوري عليْهِ بالأقفالِ
هذه أبيات مبهرات وثقيلات في ميزان الشعر برأيي وكل ما فيها يستحق الثناء مبنى ومعنى وتركيبا.
ثم لنبدأ "النقد" بالإشارة عموما إلى قضية قطع همز الوصل في حوالي 5 مواضع وهو مما لا يقبل من شاعر بحجمك على الأقل عندي.
ثم إني رأيت في العديد من المواضع التي رأيت بعض الألفاظ لم توظف جيدا أو أن هناك ألفاظ أنجع توظيفا للصورة وللمعنى في مواضع أخرى ولأن هذا الأمر مدخلا لجدل لا ينتهي وخاضع للذائقة الخاصة غالبا فإني لن أخوض في الأمر وإن كنت سأورد مثالا واحدا فقط بهذا الخصوص كي يشرح الفكرة.
حشد الضوءُ جيشهُ في جفوني = وغزا الليلُ أضلعي بانشغالي
هنا البيت صحيح وجميل ، وانشغالي تخدم المعنى ، ولكني وجدتني أقرأ البيت هكذا:
حشد الضوءُ جيشهُ في جفوني = وغزا الليلُ أضلعي بظلالي
هنا سيكون هناك صور متداخلة متراكبة تخدم مدى الاحتدام الشعوري بين الأمل والألم وبين اليأس والرجاء ، ناهيك المقابلة بين الضور والظلال ، وكذا عمق الصورة حين يكنى بالظلال عن الانشغال وغيره من المكدرات ، وكذا الطرح الفلسفي حين نعلم أن الليل لا يشكل الظلال بل الضوء وغير ذلك كثير.
أناْ روحٌ مُسافرٌ عُمقَ صمتي = حائرًا، مُتعَبَ الخطى في خيالي
الروح مؤنثة وهذا أربك التركيب عندي فالذي أراه صوابا لغة هو أن تقول أنا روح مسافرة أو في اقل حال أن تكون أنا روح مسافرًا. أنا مبتدأ مرفوع تقديرا وروح خبر مرفوع ظاهرا ومسافر هنا لا مكان لها من الإعراب إلا حالين إما نعت مرفوع لروح وحينها يجب تأنيثها أو حال منصوب لأنا ، ولا يمكن رفعها خبرا بعد الخبر "روح".
لحظةَ التّوْقِ كنتُ طفلاً بريئًا = ذائبًا كالحياء في أسمالي
المرء يذوب حياء أو من حياء وليس كالحياء فالحياء لا يذوب. كان يمكن تجاوزا أن تقول "ذائبا بالحياء في أسمالي".
لا أُجيدُ الغناءَ في حفلِ يُتمي = بَيْدَ أنّي كَسَبتُ جاهي ومالي
هذا أحد أمثلة ما قلت من عدم الانسجام بين الصدر والعجز فالصدر جميل رائع ولكن ما علاقة العجز بالأمر؟؟ ما سياق كسب الجاه والمال في بيت يسبق يتحدث عن الحياء وعن براءة الأطفال ثم صدر يتحدث عن اليتم والحزن ثم بيت لاحق يتحدث عن التحدي والحيرة والتفكر في المآل؟؟ شخصيا اجتهدت كثيرا في وضع احتمالات معان تنسجم فلم أجد.
لطمتني صروف دهري كثيرًا = وتقمّصْتُ وِقفةَ الأبطالِ
تقمصت؟؟ التقمص ليس مما يفتخر به أو يعتد بمآله خصوصا هنا في قصيدة فيها اعتداد كبير بالنفس وأجد اللفظة ليست مناسبة مطلقا للجو العام وللسياق وللبيت وللمعنى.
تَنشُدين الكمالَ من مُسْتَثارٍ = لا تثوري، فلستُ عَبْدَ الكمالِ
لماذا عبد الكمال ولست ربه؟؟ رب الكمال هو من يمتلك الكمال أو يسعى إليه ليكون صاحب كمال ، أما النفس البشرية فقد جبلت على حب الكمال والحقيقة أن الكمال يستعبد القلوب مهما قست ، ولذا كان استعمال عبد الكمال هو صورة عكسية ومناقضة للطرح الذي أردت أنت.
أناْ أرضٌ تعُجُّ بالزهرِ نبتًا = نظرةٌ منكِ تستبيحُ احتلالي
لا أُطيقُ الرياحَ تجتاحُ وجهي = والصراعاتِ تستبيحُ اغتيالي
هنا بيتان متتاليان تكررت فيهما لفظة تستبيح وهي مستثقلة من شاعر كبير مثلك.
ثم إن هذين بيتان يمثلان دليلا واضحا على مستوى الربط على مستوى البيت فالأول متنافر بلا رابط يقوي التركيب إلا السياق ، والبيت الثاني رائع في ربطه وفي سياقه.
خذلتْني النجومُ إذ كُنتُ بَدرًا = أبذُلُ النورَ في عيونِ الليالي
أعتقد أنك هنا لم تنصف الصورة المرادة إلآ إن كنت بحق تريد أن تكون ما يعني هذا البيت.
الذي فهمته من نصك بأن السماء ذرفتك نجمة شعر ، فالنجم هو الأعلى والذي ينبثق منه الضورء والبدور هي مجرد انعكاس له ، وهنا سرقتك الصورة عن المعنى فأردت أن تبرز البدر ليوافق عيون الليل فرفعت غيرك على قدر نفسك وجعلت من خذلك نجما وأنت بدرا ، ولا تحسب أنني أغفل عن الصورة التي سرقتك من المعنى ولكن وجدت أن ما أقول ألزم للنص من حيث المعنى بل ومن حيث الصورة ورأيته أن يكون هكذا:
خذلتْني البدور إذ كُنتُ نجما = ينضح النورَ في عيونِ الليالي
هنا يكون المعنى أصح وأوثق لما تريد ويكون نور النجم كمعنى وليس كموقع سببا لكشف الظلمة بفجر أمل أو إبهار.
سرّحي شَعرَ ليْلتي..، هدهديها = داعبيها بالقصّ كالأطفالِ
هنا استوقفني التوظيف مرة أخرى فالقص لا يكون للمداعبة بل للهدهدة ولذا كأن أنسب لو قلت:
سرّحي شَعرَ ليْلتي..، د اعبيها= هدهديها بالقصّ كالأطفالِ
أوجعيني بالكيّ علّيَ أبرا = أنقذيني من حيْرَتي والهزالِ
قرأتها هنا وهزالي فهي أنسب للمعنى وأوقع للجرس.
لمْ تُصِبْ غيمةُ الرجاءِ يباسي = أدبَرَتْ بالرواءِ خلف الجبالِ
ليس المهم أخي أين أدبرت الغيمة إلا إن كان سيضيف للنص أما أن تغيب خلف الجبال فهذا مما سيكون حشوا لإكمال الصدر الجميل ليس إلا.
هكذا كُنتُ سائرًا وسأبقى = بين حُلمٍ وواقعٍ وخيالِ
هنا مثال آخر لحشو اللفظ فالحلم والخيال مترادفان هنا في هذا السياق.
هذا بعض أهم ما رأيته راجيا أن يكون فيه ما يفيد.
تحياتي