آن لـ "سوسو" أن يمد قدميه !!
بينما كان "شيخ السلطان" متجهاً إلى الحافلة التي ستنقله إلى الوجهة التي يريدها، وفي يده رقم المقعد الذي زوده به المضيف، صعد "شيخ السلطان" إلى الحافلة في سرور قاصداً مقعده الذي يحمل رقمه، ويا لدهشته حين وصل المقعد!
فقد رأى رجلاً يحلق رأسه مرينز - قزع - وحول رقبته سلسلة ذهبية،تكاد رقبته تنكسر من ثقلها، وقد زينت الخواتم كبيرة الحجم معظم أصابعه، ناهيك عن لباسه الذي لا يستطيع أحد تميزه عن لباس المرأة السافرة، والأهم من ذلك كله، أن الرجل يضع على فخذه طنبوراً - آلة موسيقية -.
"شيخ السلطان" يقول له بغضب: من أنت؟
الرجل مرتبكاً: أنا.. أنا اسمي "سوسو" المطرب.
"شيخ السلطان": ولمَ تجلس على هذا المقعد؟
"سوسو": المضيف هو الذي أمرني بذلك.
"شيخ السلطان" متأفئفاً: حسناً... أعاننا الله على هذا السفر!!!
"شيخ السلطان" يجلس على مقعده متذمراً، ولا تكاد عيناه تتوقف عن التطلع إلى ذلك الرجل المخنث، بينما يجلس "سوسو" المطرب خائفاً على نفسه من بطش "شيخ السلطان"، يجلس "سوسو" في مقعده وقد ضم ركبتيه إلى صدره، وانحنى ببصره إلى الأرض، إلا أن "سوسو" أراد أن يبرر موقفه، فقال بصوت مختنق لا يكاد يسمع يا شيخ: سمعت أن كثيراً من العلماء يبيحون الغناء؟
"شيخ السلطان" بتذمر: هذا صحيح، ولكن... ولكنه قول مردود على أصحابه.
"سوسو" المطرب: ولمَ يا سيدي الشيخ؟
"شيخ السلطان" يقول في نفسه: أف لهذا الرجل، ولكن لا بد من الإجابة عن سؤاله، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من كتم علماً ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار) .
"سوسو" يقول مرتبكاً مرة أخرى - فعساه أن يكون أغضب الشيخ -: سيدي لم تجبني؟
"شيخ السلطان": الغناء يا ولدي محرم بنص الكتاب والسنة، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ}.
"شيخ السلطان": فقد ثبت يا ولدي عن كثير من أهل العلم بأن المقصود بلهو الحديث ؛ الغناء، ثبت ذلك عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، فقد جاء في الأثر عنه أنه قال: (والله الذي لا إله إلا هو، إن لهو الحديث الغناء) - يكررها ثلاث - وثبت ذلك عن ابن عمر، وابن عباس وغيرهما، وقد جاء في الحديث الصحيح عن رسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ليكونن من أمتي أقوام، يستحلون الحر والحرير، والخمر والمعازف، ولينزلن أقوام إلى جنب علم، يروح عليهم بسارحة لهم، يأتيهم - يعني الفقير - لحاجة فيقولوا ؛ ارجع إلينا غدا، فيبيتهم الله، ويضع العلم، ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة)، وهذا حديث صحيح رواه البخاري وغيره، وهذا الحديث واضح الدلالة بتحريم الغناء، بل انظر ما هي عقوبة الذي يستمع إلى الغناء، ثم لا يتوب إلى الله يمسخه الله سبحانه قرداً أو خنزيراً.
"سوسو" المطرب يقول متعظاً: الله يغفر لي.
"شيخ السلطان" ينظر إلى "سوسو" المطرب وقد امتلأت عيناه بالدمع، وأصبح يُسمع لصدره نجيش .
"شيخ السلطان" يقول في نفسه: يا إلهي لقد تأثر "سوسو" المطرب فلا بد من مواصلة الحديث معه...
"شيخ السلطان": يا ولدي إن هذه الدنيا زائلة، والحياة الآخرة هي دار الحيوان.
يا ولدي: إن الإنسان مهما عاش في هذه الحياة الدنيا فسوف يرحل عنها،فهي سريعة الزوال، لذلك سميت دنيا لقرب زوالها، قال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}، فانظر يا "سوسو" كيف قال تعالى: {ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً}، ولم يقل ثم يخضر، لأن الأصل في الزرع حين يهيج أن يكون مخضراً، ولكن الله سبحانه قال: { فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً}، هذا دليل على أن مدة بقائه مخضراً قليلة لذا لم يذكرها الله سبحانه.
بل تأمل هذا الحديث: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بالسوق، داخلا من بعض العالية، والناس كنفته. فمر بجدي أسك ميت. فتناوله فأخذ بأذنه. ثم قال: (أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟)، فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء!. وما نصنع به؟! قال: (أتحبون أنه لكم؟)، قالوا: والله! لو كان حيا، كان عيبا فيه، لأنه أسك. فكيف وهو ميت؟! فقال: (فوالله! للدنيا أهون على الله، من هذا عليكم). فانظر يا "سوسو" كيف بين الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه، أن الدنيا لا تساوي عند الله هذا الجدي الميت...
وهكذا أخذ "شيخ السلطان" يعظ "سوسو" المطرب، حتى بدا على "سوسو" المطرب علامات الندم على ما فرط في جنب الله، وأخذ يحدث نفسه بالتوبة الصادقة، كيف لا وقد شحنه شيخ السلطان بكثير من الشحنات الإيمانية.
"سوسو" المطرب يزداد خشوعاً في مجلسه، فهو لا يزال يضم ركبتيه إلى صدره، ويصغي بالسمع إلى "شيخ السلطان"، ولا زالت عيناه تذرف دموع الندم، و"شيخ السلطان" كلما لمس تجاوباً من "سوسو" المطرب كلما ازدادت مواعظه له.
وبينما هما على هذه الحال، إذ رفع سائق الحافلة صوت المذياع، فقد بدأ المذيع بقراءة نشرة الأخبار .
المذيع يقول: لقد نقل إلينا مراسلنا في العراق بأنه تم قتل جنديين أمريكين وسط بغداد.
"سوسو" المطرب: يقول فرحاً مسروراً، الله أكبر! الله ينصر المجاهدين.
وهكذا يا أخي تعلم ما صنعت كلمات الشيخ بهذا الرجل، إنها جعلته يفرح بذلك الخبر، ولكن "شيخ السلطان" كان له موقف آخر.
"شيخ السلطان" يقول متذمراً: "سوسو"!! اتق الله!! هؤلاء خوارج يقتلون الأبرياء!! فإن الأمريكان جاءوا ليحرروا العراق.
"سوسو" مندهشاً - وقد مد قدميه وعدل جلسته - ومد يده إلى جيبه وأخرج علبة السجائر - التي كاد يختنق بسبب تركه للدخان احتراماً للشيخ - "سوسو" المطرب أخذ من علبة السجائر سيجارة، ونظر إلى "شيخ السلطان" قائلاً: هل تدخن يا هذا؟
الكاتب : إبراهيم بن عبد العزيز بركات