شكرا لكل من شارك وأسهم بمعلومة أو بحث أو إفادة فى الحلقة الأولى من هذا الموضوع، والآن مع الحلقة الثانية لإتمام الموضوع
هنالك يكمل الخطابى كلامه قائلا:
وقد يتنازع الشاعران معنى واحدا فيرتقي أحدهما إلى ذروته ويقصر شأو الآخر عن مساواته فى درجته، كالأعشى والأخطل حين انتزعا في وصف الخمر على معنى واحد فكان لأحدهما العلو، وكان للآخر السفل.
دخل الشعبى على الأخطل وكان عنده أبو مالك فوجده ثملا وحوله لخالخ ورياحين، فقال: ياشعبى فعل الأخطل وذكر أمهات الشعراء فقال الشعبى: بماذا يا أبا مالك؟ قال: بقوله:
وتـظل تـنصفـنا بها قروية
إبـريـقها برقـاعه ملـثوم
فإذا تعاورت الأكف زجاجها
نـفحت فـنال ريحها المزكوم
فقال الشعبى: أشعر منه الذى يقول:
وأدكن عاتق جحل جحل سبحل
صبـحت براحـه شـربا كراما
مـن اللائى حمـلن على الروايا
كـريح المسك تسـتل الزكاما
فقال له الأخطل: من يقول هذا يا شعبى؟ قال: الأعشى.
قال: قدوس قدوس، فعل الأعشى، وذكر أمهات الشعراء.
فتأمل أين منزلة أحدهما من الآخر، لم يزد الأخطل حين احتشد وافتخر على أن جعل رائحتها لذكائها تنفذ حتى تخلص إلى الرأس فينالها المزكوم، وجعلها الأعشى لحدتها وفرط ذكائها متلة للزكام طاردة له، قد طبت لدائه وتأيت لبرئه وشفائه .
وأعجب من هذا فى المعارضات، وأبلغ منه فى مذاهب المقابلات والمناقضات بناء الشىء وهدمه، وتشييده ثم وضعه ونقضه، كقول حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه: أتيت جبلة بن الأيهم الغساني وقد مدحته فقال لي: يا أبا الوليد إن الخمر قد شغفتني فاذممها لعلي أرفضها فقلت:
ولولا ثلاث هن فى الكأس لم يكن
لهـا ثمن من شارب حين يشـرب
لهـا نسق مـثل الجـنون ومصرعه
دنى وأن العـقل يـنـأى ويعـذب
فقال: أفسدتها فحسنها، فقلت:
ولولا ثلاث هن فى الكأس أصبحت
كأنـفس مـال يستـفاد ويطلب
أمانيـها والنـفس يظهر طيـبـها
على حـزنها والهم يسلى فـيذهب
فقال: لا جرم. والله لا تركتها أبدا.
قلت: وها هنا وجه آخر يدخل فى هذا الباب وليس بمحض المعارضة، ولكنه نوع من الموازنة بين المعارضة والمقابلة، وهو أن يجري أحد الشاعرين فى أسلوب من أساليب الكلام وواد من أوديته، فيكون أحدهما أبلغ فى وصف ما كان من باله من الآخر فى نعت ما هو بإزائه، وذلك مثل أن يتأمل شعر أبى دؤاد الأيادي والنابغة الجعدي فى صفة الخيل، وشعر الأعشى والأخطل والشماخ فى وصف الخمر، وشعر ذي الرمة فى صفة الأطلال والدمن، والبرارى والقفار، فإن كل واحد منهم وصاف لما يضاف إليه من أنواع الأمور، فيقال: فلان أشعر فى بابه ومذهبه من فلان، وذلك بأن تتأمل نمط كلامه فى نوع ما يعنى به ويصفه، وتنظر فيما يقع تحته من النعوت والأوصاف، فإذا وجدت أحدهما أشد تقصيا لها، وأحن تخلصا إلى دقائق معانيها، وأكثر إصابة فيها حكمت لقوله بالسبق، وقضيت له بالتبريز على صاحبه، ولم تبال باختلاف مقاصدهم وتباين الطرق بهم فيها.