كان يحلو لى الهروب دوماً منذ وعيت وحدات الزمن المرتجفة, طرقات على باب بيتى ويعيدنى " أولاد الحلال" إلى أمى الباكية, نظرات أصبحت أراها فى كل لحظات حياتى , نظرات أمى المتسائلة دوماً : لماذا؟ لماذا؟
تأخذنى بيد غاضبة لأستحم من غبار الطريق, وتضعنى فى فراشى الوثير الملىء بلعبى وحكاياها, تطبع قُبلة نورانية الطعم على جبينى المستكين وتتركنى.
ما أصعب البقاء!!!!
سلم الخدم ينادينى حيث أهبط عليه بعد سنوات من شبه التعقل وأنا أزيح بقدمى بقايا النفايات والقطط الكسولة التى لم يعد يحركها قادم, وتملأ أنفى رائحة العفن حتى بعد عبورى الطريق إلى اللامكان البعيد, لكنى أعود هذه المرة بعد أن تنفذ نقودى,إلى عينى أمى المتسائلتين, بعدما أحاطت بهما بدايات تجاعيد محببة, تلقى إلىّ ببعض الملابس وتقودنى إلى الحمام لأغتسل من عرقى وملحى وحمقى وهوسى.
لا فائدة!!!!
تناولت- للأسف الشديد- عقار مهدىء فى تلك الليلة, رغبة الهروب إلى اللامكان البعيد تقتلعنى من مقعدى, لم تُجد الحبة الصغيرة نفعاً, تاهت ذراتها الصغيرة فى شغفى وجنونى بالمستحيل, خرجت تائه الخطوات أبحث عما سأفعله , تطاردنى عينا أمى المتسائلتان, وعدت هذه المرة مُحطم الإرادة, مستنداً على رَجُل كشجرة السنديان. هَاتَفت أمى بعض أقاربها ظناً منها أنى قد اُعْتُقلْت, فجابوا السجون بحثاً عنى, لكنهم وجدونى بطريق الخطأ عند مداهمة وكر ما فى العالم الأسود, نظراتك ياامى تتجلى فيها الآن خيبة الامل, هل كنت ستفخرين بى لو كنت عدت إليك من معتقل؟
هل يعود المعتقلون؟؟؟!!!!
ماتت عيناها, كنت أعود دوماً باحثاً عن عينيها المتسائلتين, لكنى كنت أجد الخواء, أعادونى يوماً من شواطىء البلد البعيد, مقبوضاً على جنونى, لم يسألنى أحد لماذا غادرت وأنت غير معوز؟ أو لماذا نمت فى قاع السفينة مع أحلام الآخرين؟
عدت بعد تعب إلى فراشى, أسمع حكاياها وأترقب أن تدفعنى كى أغتسل..
هل حقاً ماتت !!!!
ساعات قليلة فاصلة, عبرت لتوى بوابة الخروج حاملاً حقيبة صغيرة, لم يودعنى أحد, أخذت مكانى وربطت كل أحزمة هروبى, نظرت من النافذة الضيقة إلى عينيها المتسائلتين, زجاج النافذة يمنع أنفاسها من الوصول إلىّ, ساعات قليلة وأصبح هناك, لا أعرف بدقة المكان , لكنى موقن أن كل شىء سيكون جديداً.
تحسست حقيبتى وأغمضت عينى أتذكر أرقام حساباتى, لم يعن لى المال شيئاً من قبل, لكنى أدرك أنى خسرت كثيراً كى أهرب هذه المرة , تركت كل شىء, فراشى الوثير, دفئاً كنت أحسه بين جدران المنزل, أمناً كان يغمرنى دوماً , وإحساس مؤكد بأن هناك من سيعيدنى ثانية إليها, غادرت ولم أحمل معى غير حقيبتى وفكرتى اللعينة, هل تنبهت الآن فقط لكونها لعينة, رفعت الحقيبة الصلبة إلى رأسى , الدق المتوالى على جمجمتى يحيلنى إلى مجنون,....
هل كنت يوماً غير هذا!!!!
فُتِحَت الحقيبة وتناثرت منها الأشياء, سقطت بين يدى عيناها المتسائلتان .
دقائق قليلة فاصلة- قبل الإقلاع - أعادتنى إليها وقد تركت هناك على الصندوق الطائر إلى اللامكان البعيد, حاجاتى المتناثرة وأفكارى الرعناء, أحمل الآن - فقط - فى قلبى , عينيها المتسائلتين.