طفل الحب المرفوض
عندما قفزمن على ظهر أمه، وطأت أقدامه الصغيرة الأرض، ترنح واقفا ثم تقدم خطوة فوقع،ثم وقف فتقدم خطوة ثم وقع. تلفت حوله.. فوجد حافة العنقريب* الذى تضع أمه عليه ملابس الغسيل مد يديه الصغيرتين، وأمسك بالحافة الخشنة ،حمَلها ثقله الخفيف ونهض واقفا . وصار يمشى ممسكا بها وهى لم ترحمه فطبعت على راحة يديه الصغيرتين خشونتها ، تحمل خشونتها القاسيه صابرا حتى لايعود للتنقل على ظهر أمه فقد كره تلك القطعة المهترئة من الأسمال الى تحيطه بها أمه حتى لايسقط على الأرض أثناء تأدية أعمالها الشاقة،من غسيل ونظافة وغيرها. ويجد مايلهو به فى الأرض غير عظام ظهرها الناتئة. طالما عزف عليها خربشات طفولته مفرغا ملله من ذلك السجن الاجبارى. التفت إلى أمه فرآها تنظر إليه باسمة، قد شلت الدهشة حركت يديها الآليتين يديران قطع الملابس، داخل الطست المغطى برغوة كثيفة من الصابون، وتلك الفقعات البلوريه تتطاير فى الهواء، جذبت الصغير ليترك حافة العنقريب ويجرى خلفها يريد الأمساك بها ولكنه لم يقع. مد يديه الصغيرتين ليمسك بالفقاعة الطائرة، تحملها نسمة هواء رقيقة إلى أعلى ،حيث الفضآت غير المرئية تذوب بداخلها وتتلاشى. ولكن الصغير كان يراها فقاعة لامعة، تتلون بالوان قوس قزح وتجذبه لملاحقتها .فرسم خطواته الأولى على الأرض رافعا رأسه الى أعلى متطلعا. أغمضت أمه عينيها حالمة، وتمتمت فى سرها حامدة شاكرة للذى خلق الوجود وجعلها ترى صغيرها يترجل من على ظهرها، ويتطلع إلى السماء. فركت عينيها لتصحو عائدة لتحريك يديها داخل الطست لتزيل الأدران من ملابس الأسياد ، من بقايا طعام وبول وبراز وأوساخ أخرى لاترى بالعين المجردة. تفركها لتزيلها مقابل حفنة من المال تعيل بها صغيرها .
تقدم ثم تقدم ولم يقع. جذبته الأرض الصلبة. فوقف شامخا يبحث عن الأتراب ، كلما حل الترحال بأمه فى منزل لآداء أعمالها. ترك الصغير عوالم أمه وصار يتفقد منازل الأسياد فهو طفل لايعرف طبقته، يجوب الحجرات ويلعب مع صغار الأسياد بالعابهم ،كانوا الصغار يأنسون له ولكن الأمهات يتزمرن من وجوده فى غير المكان المخصص لابن الخادمة. فى منزل نفيسة المرأة القاسية منَ الله عليها برزقٍ وفير، ولكنها عقيم. تكره مكونات النضاف التى لم يتسع لها رحمها المجدب، فلم تنبت لها بذرة انسان من ثلاث زيجات، فلاسيما فهى تكره الصغير ابن الخادمة . أمرت أمه ألّا تأتى به معها بعد أن حل وثاقه من على ظهرها، وصار يمشى على أثنين. فأسقطت الأم فى يدها. ليس لها مكان آمن تضعه فيه، وهى لاتستطيع أن تعيده الى ظهرها فعظام ظهرها البارزة لم تعد تستهويه، فأصابعه قد نمت ويريد العزف على آلة الحياة . كان الصغير سببا تترك أمه منازل الأسياد من كثرة الشكوى والطرد المتكرر.
ذهبت الأم عند أطراف المدينة، حيث يسكن أبناء جلدتها من النازحين، فى منازل الكرتون المتراصة فى خطوط عشوائية تتخللها بعض الشجيرات النامية. فالحى الكرتونى تنبعث منه روائح مختلطة عند هطول الأمطار، فتمتزج رائحة الدعاش بروائح صفق الشجيرات، وتنبعث رائحة قاذورات الحيوا نات والطيورالتى تشارك أهل الحى الضياع، فتلبى نداء الطبيعة أمام الأبواب أو على الوسائد وفى أوانى الطعام.أ شار النازح القادم للحى الكرتونى مؤخرا للأم أن تترك ابنها معه، فهو رجل مسن هجم عليه اللصوص أثناء نزوحه وسرقوا مدخراته، فصار يحرس أطفال الحى الكرتونى ريثما تعود الأمهات ، عندما ينحسر الضوء وتتبدد الطاقه فى العمل و يلون الكون بريشته صفحة السماء باللون البرتقالى المحمر. عند انحدار الشمس للمغيب ينتظر الأطفال الأمهات القادمات من قاع المدينة محملات بما لذ وطاب، ولايدرى الأطفال ماثمنه اهدار كرامة أم سقوط أخلاق.
تركت الأم صغيرها وخطت نحو الطريق والخوف قد غزا لحظتها . تجمع البكاء فى صدرها، فقد رافقها على ظهرها عامين ومتعلق بأطراف ثوبها أربع سنوات. لم تتسع منازل المدينة الواسعة لصغيرها. خطت نحو الطريق، أبتلعتها أرصفة الشوارع، وهى فى طريقها المنحدر نحو المدينة، وذهنها مشوش فترى الطريق متسع حينًا ، وضيق أحيانًا ،تحدث نفسها وتتلفت خشية أن يعرف الناس سرها. أنها تفتقد صغيرها ومرحه وقفزاته أمامها .
كان الصغير يجلس على الأرض، ويرسم بأصبعه السبابه دنياه، فيرسم منزلًا كبيرًا وعربة جميلة، لايرسم حيوانًا ولاطائرًا كبقية أترابه، عندما كان على ظهر أمه سجلت عيناه دنيا كالتى يرسمها. كان النازح الذى يقتات على عرق نساء الحى الكرتونى، ينظر إلى الصغير الوافد متفحصاً، طرد الصغار خارج بيته مطالبًا اياهم بسرقة دجاجة سال لعابه كلما مرت أمام حجرته تتبختر. هرع الصغار فى سباق يبحثون عن الدجاجة التعيسة التى وصفها لهم. كانوا يهابونه، ويخشون غضبه ومطرقته، التى طالما همّزهم بها أو لوّح بها مهددًا تتابعها أعينهم الوجله خوفا أن يهوى بها على أجسادهم النحيلة. أمر النازح المسن الوافد الجديد بالبقاء وهمس بصوت كفحيح الثعبان:
لماذا تجلس على الأرض تعال..
صمت..والصبى منشغلا رفع صوته مغيرًا نبرته :
تعال أجلس قربى هنا!
ولكن الصغير الذى ظل وحيدا مع النازح هائم فى عوالمه، لم يسمع الدعوة ولم تخيفه حدة نبرته فهو منذ صغره لايعرف الخوف. رفع النازح مطرقته التى يهش بها الحيونات والطيور والاطفال ويتوكأ عليها فى السير، يستخدمها لينال البعيد. همز بها الصغير فى وسطه مدغدغًا ثم ناداه مبتسمًا فارجًا فمه الخالى من الأسنان . نظر إليه الصغير وأنصرف مواصلا رسم عوالمه، منزل وعربة وامرأة تقود طفلا ولكن النازح لم يطق صبرًا، فجذب الصغير من عوالم الطفولة البريئة إلى عوالمه الشائهة، أجلسه على حِجره، ومد يدً مرتجفة يداعبه. تململ الصغير وصارع يريد التخلص من قبضته، ولكن النازح يفح فى أذنيه معسول الوعود. أوقف الصغير نضاله وهمدت حركة تمرده. ولكن النازح تمادى وتحرر من ملابسه وما أن رآه الصغير حتى صرخ وأراد الهرب ولكنه لم يفلح............إ نتهت اللعبة الماجنة، وتصبب النازح عرقا نتنا، وخارت قواه، فافلت الصغير الذى تقوس وإنطوى مثل قطة ضربت بعصا غليظة على ظهرها .
كانت الأم تسرع الخطا نحو كوخها الكرتونى، .تسابق الشمس التى أوشكت على المغيب محملة بما تجود به قمامة المدينة، لم يستقبلها صغيرها، توجست ثم إندفعت نحو باب كوخ النازح، فتبعها الباب منفتحا مرسلا صريرًا وأنينا عاليًا، فرأت صغيرها عاريًا كما ولدته، جسده مكومًا فى غيبوبة لم يستطع أن يتحرك شلّت المواجهة الأم، هجمت على النازح تركله و تضربه، وألقته فى الأرض مشدوها. حملت ابنها وهرولت إلى بيتها تبكى وتندب حظها، وتصرخ وتصيح به:
لماذا تركته يفعل بك ذلك ؟
كان الصغير ينظر إلى أمه مندهشا سألها: لماذ تبكى؟! فقد وعدنى بأن يشترى لى عربة مثل عربة حمادة ابن المعلمة. الذى منعنى اللعب معه و..
صرخت الأم مرة أخرى وسقطت على الأرض متمتمة: اه.. ياصغيرى لقد بعت جسدك الغالى لهذا العجوزالقذر من أجل عربة الطفولة.
ذات فجر أحمرلم تشرق الشمس فيه استيقظ أهل الحى الكرتونى على حريقٍ هائل، أتى على منزل النازح ولم يجدوا أثرا للأم وصغيرها منذ ذلك الصباح . وبعد صباحات متتالية، لم يعد الصغير صغيرًا، تذكر ظهر أمه الذى طاف به فى طفولته منازل الأسياد. طفرت دمعةٌ سخينة من مقلتيه حملّها حزنه ومضى...
(المكان افريقيا)
*العنقريب: سرير من الخشب منسوج بحبال مصنوعة من لحا الأشجار