شروط النقد الموضوعي
في البحث عن الحقيقة الكونية ، من خلال الحقيقة الأدبية تبرز الضرورات المنطقية الباحثة عن الشروط المطلقة الساعية إلى بلورة حقيقة من الحقائق ؛ والنقد كأحد الفنون المعرفية ، أو المعارف الفنية يعدّ من أدق المعارف لأنه يناقش أعقد القضايا في حياة الإنسان ، وهي قضية الإحساس والتعبير ؛ والإحساس حتى يومنا هذا لا مقياس حقيقي له ، وكي يمكن لنا أن نقيس درجة الإحساس ، ونحن مازلنا نشتعل في لحظة ضعف أحياناً ، ونتبلد في لحظة أخرى، ونفرح في ساعة ما، ونحزن في ساعات أخر؛والإحساس الأدبي أعصاب دقيقة تبحث عن ديمومتها من خلال انفعالها بقضايا قد تكون ذات أهمية في عصر ما ، وقد تكون تافهة في عصر آخر ، وقد لا نحتاجها في زمن ،بينما هي ضرورة في عصرها 0
ومن هنا نعتبر أنه إذا كان النقد ثمرة حقيقية لشيئين هما : ( دراسة موضوعية للأدب ، وتقرير شخصي للناقد ) ، فإنه من الواجب عند الحديث عن شروط الناقد الحق الصحيح المعافى من الميول ، والأهواء ، والذاتية ، والشخصانية ، والأنانية على أن يفهم هذا الناقد من النص المنقود الغاية التي يريد أن يتوصل إليها الأديب ، وإن دقت ، ولا يكون ذلك إلا بفهم الجزئيات المتعلقة بعلوم اللغة ، والتي تعين على سبر عمق عقل الأديب ، وطرق تأدية العبارة بشكل ملفت للانتباه ، والناقد الحق من كان ذا معرفة ، وخبرة ، وذكاء ،و اطلاع على فنون الأدب ، والحياة ، ومقاييس المنطق ، والعلم ، ومناهجه 0ذا قدرة على النفاذ إلى عمق الأديب نفسياً ، وعقلياً دون التعصب لجنس ، أو لون ، أو فكر ، أو اتجاه أو طريقة على أن يكون ذا ملكة نقدية تسهم في كشف أدق الأسس الجمالية ، والمعرفية التي يحملها النص ، وإذا كان هناك من مهمة تقع على عاتق الناقد الأدبي ؛ فإنما هي نابعة من كونه مسؤولاً عن رفع مستوى الذوق ، والفهم عند القارئ ، والأديب ، وكم من رواية ، أو قصة ،أو قصيدة كشف النقاد عن آفاق الجمال ، والمعرفة فيها0
إن مهنة الغربلة التي يمتلكها الناقد ، إنما هي جزء من مهمة النقد على أن تكون هذه الغربلة للآثار الأدبية ، لا لأصحابها كما يفعل البعض 0 لقد كان الآمدى في موازنته بين الطائيين يحاول أن ينصف كليهما ، ويعطي كل ذي حق حقه من خلال عرضه لحجج الفريقين المناصرين لكلا الشاعرين ، وإن مال أحياناً لأحدهما على حساب الآخر 0
ونحن لو استعرضنا أحكام النقاد منذ القديم حتى يومنا هذا عربياً وأوربياً لوجدنا أن معظم الأحكام النقدية التي حكمت على شاعر بعينه ،أو على نص بذاته ، أو على حقبة ، أو عصر أدبي بكامله أحكام جائرة وغير محققة لشروط النقد الموضوعي التي تجرد الناقد من كل الترهات المسبقة ، وتضعه في مواجهة مع النص فقط 0 وباستثناء الحكم النقدي الذي أطلقته (أم جندب زوج امرئ القيس ) في مقارنتها بين قصيدتين ذات وزن واحد , وقافية واحدة ، وموضوع واحد بين شاعرين هما ( امرؤ القيس زوجها وعلقمة الفحل ) إن صحت الرواية ، وترجيح قصيدة علقمة 0 تبقى الكثير من الأحكام النقدية بحاجة إلى مراجعة وخاصة تلك التي تحدثت عن شعراء ، وأدباء كانوا مقربين من البلاط الأموي والعباسي 0000
إن النقد الأدبي ، باعتباره وظيفة اجتماعية يسهم على مر العصور في تكوين ذوق إنساني يرقى بالإنسان ، ويرتفع به نحو الكمال ، بل يجعله إنساناً متحضراً ؛ على أساس أن عملية النقد بحد ذاتها ارتقاء نحو الأفضل ، وبحث عن الكمال ، وتنمية لملكة التغيير ، وفتح لآفاق النفس ، وتهذيب للغرائز ، وتقوية للعقل 0
لقد دخلت الفلسفات القديمة والحديثة ، والأفكار المجردة عمق النقد ، أصبح على النقد بعد أن كان فعالية تابعة لفعالية الأدب أن يرسم أطره ، وقوانينه ، ومناهجه ،وأهدافه ، ووظائفه بل أصبح من مهماته أن يكون لنفسه محوراً أفقياً وعمودياً تتمحور حوله كل المعارف ، والأفكار التي تظهر حديثاً 0
لا أريد أن أدخل في تفاصيل دقيقة ، فالحديث سيطول ؛ ولكنني أريد أن أؤكد على دور النقد الحقيقي ، ودخوله في كل باب ، ولا يمكن لأي أدب مهما كان أن يحافظ على شبابه ، وحيويته إلا بإسهام النقد 0لا أقصد أي نقد ؛ إنما أقصد النقد الفعال ، النقد الهادف ، النقد الصحيح ، النقد المبرمج ، النقد الموضوعي ، النقد القائم على أسس دقيقة ، وركائز صحيحة 0
وما كان للمتنبي أن يبرز على حقيقته أمام قارئيه لولا المعارك النقدية التي دارت حوله ،وما كان لإليوت أن تثمر شجرة الشعر لديه لولا وقوف النقد ( أحد جوانب شخصيته ) خلف شخصيته الأدبية 0
إن المفاهيم النقدية ليس كما يعتقد البعض مصطلحات لفظية تضفي على أي نص عناصر المدح ، أو الذم ، أو هي براءات اختراع 0 إنها أفكار وفلسفات ومعتقدات العصر الذي تعيشه إنها روح الحياة الإنساني لديه 0
أليس الأدب هو الإنسان ؟! أليس الأدب هو العمق الروحي ؟! إذاً كيف يكون هناك أدب روحي ، وعمق روحي لولا وجود النقد 0
لا أريد أن أدلل على أهمية النقد بالنسبة للأدب ، فالثمرة الناضجة يعرف طعمها من يمضغها ، والثمرة الفجة كذلك ؛ والإنسان العادي لا يحتاج إلى تعليل سبب طيب هذه الثمرة الناضجة ، أو قبح الفجة 0 ولكن الذي تأخذ بتلابيبه حركة الحياة ، وتطويرها لا بدّ له أن يضع الأمور في نصابها ، وأن يعلل أسباب الجمال ، والقبح ، والكمال ، والجلال في كل ما يطلع عليه ، وأن يضع الموازيين الدقيقة من أجل تصحيح العلوم ، وبناء القيم ، ورصد حركة الحياة ، والسمو بمستوى الروح الإنساني 0
إن ديناميكية النقد ، والأدب تتأتى من خلال البحث الحقيقي عن مثل الخير ، والحق ، والعدل ، والجمال ؛ لأنه (مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت ، وفروعها في السماء ؛ ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار )
وسياسة الأدب وترويضه عملية معقدة ، وذات أبعاد حساسة ؛ إذ أن الأدب قد يتحول بفعل السياسة ، أو النقد على حدّ سواء إلى اتجاهات ذات أبعاد منحرفة إذا شاءت السياسة ، أو النقد ذلك ؛ أو إلى اتجاهات ذات أبعاد بنّاءة إن أريد له ذلك ؛ خاصة وأن من الأدباء من تجره نرجسيته ، وذاتيته النفعية و المصلحة ، و إذا تحول الأدب إلى نفعية فعلى الذوق السلام 0
لن ندخل منذ البداية إلى ساحة الصراع بين القديم ، والجديد ، وبين الحداثة ، والتقليد ؛وبين الأصالة ، والتنطع ؛ وبين الشكلية ، والمضمون ؛ ولكننا سنؤكد على نقطة حساسة في عملية النقد هي البحث عن (أكسير وروح الأدب ) الذي نعتبره بحق لبّ العملية النقدية ، وسننظر إلى العملية النقدية على أنها محور من محاور تطور الأدب ، لا من خلال الكلام الفارغ ، ولنكن من خلال التطبيق العملي في عملية فرز نوعي ، وكيفي للأدباء الذين ساهموا في بناء الأمة ، و منهجة فنونها البناءة ، ومحاربة فنونها الهدامة . ونحن في عملنا هذا لن نتعرض إلى أفضل شاعر في المدح ، أو الهجاء ،أو الغزل كما كان يصنع نقادنا القدماء ، بل سننظر إلى الأدب على أنه اتجاهات ، ومحاور ، وظواهر نشأت بفعل عوامل متعددة ، ومتشعبة ، وأن هذا الأديب ، أو ذاك أسهم في تلك الظاهرة ، أو أسس لها ، لأن مسألة المذاهب الأدبية مسألة دخيلة بالنسبة لأدبنا ، و ليست من نسيج بنائه . ولو أنا حاولنا استعراض ظواهر الأدب العربي لوجدنا بوناً شاسعاً بين ما يتحدث عن الواقع ، وبين ما يفترض فيه أن يكون نظرية لأدب أسسّ بنيانه منذ أكثر من ألف ، وستماية عام ؛ وفي حديثنا عن أدبنا هذا ، وعن أدبائنا الذين يسهمون في عنونته ، وبناء قواعده ، وتأطير أشكاله ، وتعميق أجناسه سنتعرض إلى الغث ، والسمين ؛ النافع ، والضار ، والجميل ، والقبيح ؛ الخيالي ، والواقعي ؛ العلمي ، والنظري لندرك منذ البداية أننا واعون لما يجري في الساحة العالمية .
لن نتغافل عن كون أدبنا ، ونقدنا يعيش في مأزق في بعض جوانبه ، وفي ردّة في بعض جوانبه الأخرى ، وفي تقليد في مناحي أخر ؛ ولكننا سنتعرض لنقطة مهمة جداً تسهم في بناء الأدب أولاً ؛ والنقد ثانياً .
كيف نؤسس لأدب عربي إنساني دعائمه الحق ، والخير ، والعدل ، والجمال ؟
وكيف نؤسس لنقد عربي يحقق للأدب ، وللأدباء أريحية رحبة ؟
وما هي السبل الموصولة لذلك؟
أسئلة سنحاول في بحثنا هذا الولوج في أعماقها ، والكشف عن أسرارها .
إنني لن أحاول الخروج بالنقد من مرحلة التأسيس الحقيقي إلى التنطع ، والتزوير ، واللعب على (سيرك) الكلمات ، وادعاء التمثل للثقافات الأجنبية ، وإدخال كل غث ، وسمين إلى نقدنا ، وأدبنا فتلك سمات العاجزين الذين يعيشون بثقافتهم على أكتاف الآخرين ، وهذا لا يعني ألا نستفيد من كل ما أبدعته الثقافات العالمية ، والآداب الإنسانية ؛ وإنما أريد التأصيل لكل ما يخدم ثقافتنا ، وفكرنا ، وواقعنا ، وأمتنا دون أن يتعارض ذلك مع فكرنا الإسلامي الحنيف ، وليس أدل على ذلك إلا المذاهب الأدبية ، والنقدية التي نشأت في غير عالمنا 0صحيح أنها مذاهب نقدية ، وأدبية فعالة ،وحساسة تؤطر لحركة الفكر الإنساني ؛ إلا أنها مستغلة في بعض جوانبها من مفكرين غير أمينين على التراث الإنساني ، بل هم عوامل هدم ، وتدمير ، وتخريب لكل ما هو جمالي ، وخيري ، وإنساني ، ولكن بطرق دقيقة 0
ولن أتوسع كثيراً في ذلك ( فالوجودية والسريالية) كمذاهب أدبية حاولت الثورة على جمود الأدب ، وسعت لتطويره ؛ ولكن من خلال ذلك أدخلت السم بالدسم ، فالوجودية مثلاً اعتبرت أن الإنسان محور الوجود ،وانه بعد الحرب الكونية التدميرية الأولى ، والثانية كان عل الإنسان أن يهتم بوجوده،ولكن دون أن يقترن ذلك برفض فكرة الألوهية والأديان ، والموروث الإنساني 0
كما أن السريالية نقلت الشعر نقلة كبيرة بمحاولة الارتقاء به إلى التلقائية والعفوية ولكنها دمرت الأدباء والشعراء من ناحية ثانية بدعوتهم إلى استعمال المخدرات ،والحشيش ، والأفيون من أجل تحريض العقل الباطن على استنـزاف ما يختبئ في تلافيفه من قضايا لم يستطع الإنسان إخراجها في وعيه الكامل 0
لقد دعا الكثير من فلاسفة الشعر ، والأدب إلى ضرورة الخروج به إلى سماء الجنون ،وهذه قضية قديمة منذ أيام شياطين الشعر مدعين أن الأدب ،والجنون قناة اتصال ،ولكنهم نسوا ، أو تناسوا أن الأدب هو اختراق للواقع ،وصدام معه ،ومحاولة لتغييره وبالتالي فهو يحمل لواء التغيير ،وكل تغيير في عرف المجتمع جنون 0 ألم يتهم أهل مكة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنون مرة، و بالشاعرية مرة أخرى ، وبالكهانة مرة ثالثة 0صحيح أن بين العبقرية والجنون قنوات اتصال ولكن ذلك لا يعني أن الأدب جنون 0
وللحديث بقية