صفع الباب بقوة ودلف الفيلا يركض وهو يحمل في جعبته الفاجعة نادى ماجد بصوت يهزه الأسى : أمـــاااااه والدي مــات ، مــــــات
ارتجت هذه الكلمة في أرجاء المنزل وتضخمت لترتطم بجدران الصالة فترتدُّ على أسماعهم مرَّات ومرَّات تسمرت هندٌ في مكانها وياسرٌ فاغرٌ فاه وسديمٌ لم يتحرك فيها ساكن وهي تجلس على تلك الأريكة المرقشة فقط كانت تنظر بجمودٍ وترقُّبٍ أما الأم فقد اتسعت حدقتيها وهي تردد باحتساب : إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها , ماالذي حصل بالضبط ياماجد اهدأ واشرح لي ؟!
- لم يكن هناك شئ جديد السرطان هو السرطان يستشري في جسد الإنسان حتى يقضي عليه ، كان بصحة متحسنة يبتسم ويتحدث معي وفجأة أغمض عينيه وانقلب ناحية اليمين ، ارتبكتُ فهززته ولكنه لم يتحرك أسرعت بين أروقة المشفى أنادي الطبيب "أيمن كمال" فقدم معي نحو سريره في الحجرة بالعليَّة، ومعه مايستلزم للكشف ، قلَب والدي وبدون عناء أخذ يتحسَّس نبضه وهو يهز رأسه بصمت أن لاجدوى ، فقد حياته رحمه الله رحمة واسعة تلقيت الخبر منه وكنتُ على رجاء أنه مازال حيًّا فوقع قوله في قلبي ثقيلا حتى أضحيتُ كمن ينازع سكرات الموت , عمومًا سيكون الدفن عليه بعد العصر ولم يتبقى سوى ساعتين على الآذان .
أسرعت هند لجلب عباءتها، وياسر يبحث عن فردة حذائه بذهن مشتت ، وأمهم تحاول الصمود والدمعة تخذلها ، خرج الجميع عدا سديم , مرت بجانبها هند ولوت رأسها قائلة بعتاب : أعديمة الإحساس أنتِ ؟ ألن تريه معنا قومي يـا...
- بترت عبارتها بصوت مرتفع قليلا : لاأستطيع ذلك ، اذهبي أنتِ ( قالتها بملل)
- ستندمين لاحقا .
انطلقوا بالسيارة إلى المشفى حتى ينقلوه إلى المغسلة بعد رؤيته وسديم ولجت الغرفة تجرُّ خطاها ، وكأنما هموم الدنيا تكالبت لتجندلها وتثقل حركتها , شعرت بحرارة صادرة من جسدها ، والدمع يعانق شفتيها ، حتى أمست تطوي الوقت في أنين ، ويتلاطم موج الحنين , محوملامحه وصورته العالقة في الذاكرة كلوحة أتقنها وأبدع بها أفضل فنان لأمر محال .
المشاعر متضاربة ، والأحاسيس تتكدَّس داخلها متنازعة سقطت منهارة تبكيه ، مرَّ الشريط سريعا لما سمعته وشاهدته من ذكرى والدها " حمود التميمي" الأب الذي عانى طوال حياته عاش يتيما تاركا والده إياه طفلا بعقل الكبار ، كرَّس حياته في العمل ، اعتمد على نفسه في جميع شؤونه وتعرَّض لمواقف مخزية وأحداث ذُلَّ فيها كبرياء رجل لكنَّ الحياة علمته التصرف بحكمة ، تزوج ابنة عمه وكان يدير عددا من الشركات إضافة إلى مايملكه من العقارات حيث أصبح تاجرا يشار إليه بالبنان ، لَكَم ساعد الكثير ممن حوله أقاربه ، أصحابه ، وأناس أُخَر
التف حوله الجميع ليملأوا بطونهم ونظراتهم الجشعة تطمع في المزيد من أمواله الطائلة ، احتالوا ، سرقوا وهو كأنما اتخذ هذه الآية شعارا له : ( فمن عفا وأصلح فأجره على الله)
حتى إذا خسر جُلَّ أمواله وأنهكه المرض وتراكمت على جسده أتعابُ السنين, تلاعبت الأفاعي حوله ، وتظافرت عليه الديون حينها تخلّى عنه الجميع كما لم يكن يوما ما ملكا يحيطه خدم وحشم يعملون تحت إمرته حتى إن أتت فرصة لانتكاسته خذلوه وتشفوا به ، الشماتة من الاقرباء كمن يمسك حديدة يعرضها للنار ويضعها على جلدك مستعرة ، حينها كيف سيكون مقدار ألمك ؟
والأدهى والأمرَّ أن تلقى الجرأة والتمادي من أبناءك حتى ينهال عليهم سوط الندم الذي يوقظ حسهم بعد مماته ، فعرفوا كم هم حمقى عندما جلسوا على أرجاس الحساد واستمعوا لهم بآذان صاغية ، سيبكونك اليوم وينسونك غدا تحت وطأة المشاغل وصخب الحياة .
رددت بعينين تفيضين بالشجن :إن رأيتك كما فعلوا ستزيد أطنان الألم بداخلي , حبك ألم ، موتك ألم ، ذكراك ألم ، عيشي بعد موتك ألم ، الحياة برمتها معاناة لذواتنا الإنسانية الخرقاء,
شرعت تشهق وتعض شفتيها بحسرة : أبتــاه ، ماأنا إلا دمية بين يديك ، افعل بي ماتشاء ، اذبحني , اسلخني ، اضربني بأقصى قوة لديك ، خذني للقبر بدلا عنك ، رحمك الله افعل بي ماتريد فأنا رهن إشارتك ، أحبك ، كلاَّ بل أفديك بكل كياني ، فقط عُد , عد كما كنتَ .
كانت تتساءل بحاجبان مرتجفان وشفاه مرتعشة : هل حب أسرتك والتضحية تنقلب ضدك؟ أم أنكَ لم تضع التضحية في مكانها الصحيح " أبي" ؟
ماأقسى العالم ،وماأغبى البشر !!
فرَّ منها الذهول وماتت آخردمعة على شاطئ احزانها الذي دنسته الجراح ووقعت في شرك اللامبالاةالمعتادة , قهقهت وهي تصفع رخام الغرفة بكفها وكأنما أصابها ضرب من الهذيان.
اعتلى صوت الآذان ليعلن أن صلاة العصر قد حانت ، وصل أهلها ، ترجلت منيرة وابنتها هند عن السيارة ودخلوا البيت ، وتوجه الأبناء نحو المسجد للصلاة ، اتجه الجميع نحو المقبرة حيث حضر جمع غفير لتشييع جنازته
حمل ماجد وياسر والدهما ليضعانه بيديهما في الحفرة الضيقة منزل الإنسان وموطنه الذي خُلق منه , فكوا الأربطة منه وسدوا عليه في لحده بلبنات ثم أهالوا عليه التراب وهما يدعوان لوالدهما بالثبات فالآن يُسأل.
يا الله كم هو شعور صعب على الإنسان عندما يضع شخصا عزيزا عليه ، في حفرة ضيقة، ثم يهيل عليه التراب بيديه وماء عينيه تروي الأرض فتنمو نباتات صحراوية تقبع في وحدتها المريرة ، هكذا تماما ينمو الحزن ويترعرع في صدورنا , فما إن يأتي سيل الفرحة الجارف ويقتلعه حتى تُلقي النوائب بذرتها مرةأخرى في القلب ، نسقيها بالبكاء فيكبر الأسى حيث تمتدُّ جذوره ملتفة حول عروقنا تتشبث بقوة وتسير حيث سار الدم بجميع اتجاهات الجسد ، فيصعب نزعها ونمارس حينها طقوس الأشجان ( بهذا كان يحدَّث ياسرٌ نفسه )
توافد المعزون إلى الدار فالرجال مابين داخل وخارج والنساء تتفاوت ملامحهن مابين متجلدة وصامتة وأخرى متأثرة دامعة ، وثالثة مستمتعة برشف القهوة ساهية ، ومن بينهن امرأة تصطنع الشفقة حينما رأت سديم حركت رأسها متباكية : المسكينة يتيمة !
قذفت إليها سديم نظرة ماقتة وتمتمت: إذا اختلطت دموع في خدود ** تبيَّن من بكى ممن تباكى
ثم رفعت صوتها بثبات : لابأس ، نبي الأمة محمد صلى الله عليه وسلم كان يتيما
استدارت ناحية المطبخ ونفسها تسخر من امرأة عمها البغيضة , فتحتِ النافذة لتنتعش رئتيها بقليل من الهواء العابر ، فإذا بالشفق يحمرَّ وتتوارى الشمس في المغيب إلى ماوراء الكون ترحل ، فتقذف في الفؤاد حسٌّ غريب ، وصمت مميت ، وضجيج نبض أحمق .
[ براءة الجودي ]
ننتظر نقدكم البناء