أكان لابد أن تتركني أنام وحيداوجهه بري موغل بالبراءة،ويطله قمر أصفر باهت اللون!
انحنت ملامحه الغائرة في جسدي تمثالا من صخرة الجرانيت وأقف متأملا قبالته ساعات طوال .
يا لقسوة ذكري فراقه!!تتدفق إلى عقلي؛فتنساب إلي قلبي وشراييني جمرة نار.
وويلي للمنام وكوابيسه التي تذبحني كل ليلة،وأنا أضطجع وحيدا منذ أن فارقني.
أيام طوال اشتاق إليه؛فأبحث عنه في كل ركن من أركان المنزل،ولا أجده..أتسمر طويلا في صالة الضيوف محدقا في صورته المعلقة علي الحائط..ففي هذه الصالة أمسكت أنامله الصغيرة،وخطونا أول خطوة له وأقول له محفزا:
- تا تا ..تا تا.
مازالت آثار أنامله في كفي !!
جبت الطابقين صعودا ونزولا عدة مرات فلم أعرف له أثرا ؛فهرعت مسرعا إلى شجرة النبق ،فدوما ما كان يجلس تحتها منتظرا سقوط الثمرات.. تراه هل يتذكر؟!لقد زرعناها سويا،ورويناها ،وتابعتها تكبر يوما بعد يوم ،وأراه يكبر فيها..مازالت واقفة أمام المنزل تسقط الثمر منتظرة من يأكله!
لا ..لابد أنه يجلس أسفل كرم العنب يرنو بعينيه الصغيرتين إلي شعاع الشمس المتسلل من بين أوراقها،فيقفز إلي أعلي محاولا معانقة الشمس التي يعشقها،فترتد أقدامه الصغيرة دون أن يمسك بها ،فيشعر بالحزن ،وينظر إلي ويطلب مني بإلحاح أن أحضر له سلما عاليا ليصعد إليها،فأضحك وأداعبه قائلا :
- الشمس بعيدة جدا،ولا يمكن الصعود إليها.
يقول ببراءة:
- أنا أحبها،ونفسي أصعد إليها.
فلم أخذني اليأس وتعبت من البحث جلست حبيس مقعدي،وتذكرت ألبوم صوره،فقمت وأحضرته،وجلست ثانية أتأمل كل صورة منه وذكرياتها تهفو حنينا إلي صدري لحظة بلحظة..
فتلك الصورة له حين كان يمتطي ظهري،فأحمله وأدور به في كل جزء من الحديقة،ويلكزني في جنبي لأسرع من خطاي؛فأسقطه من فوق ظهري ثم نتمرغ متعانقين علي الحشائش،وتتوسخ ملابسه،فيئن باكيا:
- وسخت ملابسي..
- سأشتري لك ملابس جديدة..
يفرح،فيلف يديه الصغيرتين حول عنقي،ويدفعني علي ظهري،ويصيح:
- سأهزمك.. مثل بطل المصارعة.
نتعارك ونتقلب وضحكاتنا ترج المكان.
يا لوحدتي بعده!!
تركتنا أمه ومضت وهو ابن سبعة أيام ،فكان ونيسي ورفيقي وصديقي ..كم من مرة سألني عنها:
- أين أمي؟
أداعب خصلات شعره ،وأجيبه ودمعات تترقرق من عيني ّ:
- عند ربنا!!
- نفسي أذهب إليها .
أخذه في حضني،وألم فراقها يقهرني :
- كلنا سنذهب إليها!
وتلك الصورة له وهو يرتدي بذلته أول مرة متأهبا للذهاب إلي المدرسة،فشعرت بسعادة اختلطت بلحن عذب ترتله طيور فرحة حولي أسمعها لكني لا أراها ،وامازحه قائلا:
- كبر الولد.
يشد قامته ، ويقول بفخر شديد:
- نعم ..فأنا المهندس أحمد إسماعيل!
شعرت بفرحة كبيرة وأنا أري نفسي مرة أخري متجسدا فيه،فأقول لنفسي:
- من أنجب لم يمت!
وتلك الصورة التقطتها وهو يتقلب في فراشه،وقد أطلتنا أشعة الشمس من النافذة،فأوقظته قائلا:
- صديقتك صحت قبلك.
يقفز من علي سريره،ويفرك عينيه،ويقول:
- لا ..أنا استيقظت الأول..
ونتجادل طويلا حتى أشعر بحزنه،فأقول له:
- أليست الشمس صديقتك؟
يجيبني :
- بلي.
- إذن لا يهم من الذي استيقظ أولا مادمتم أصدقاء.
يقتنع بكلامي ويذهب ليغسل وجهه،ثم يجلس معي ليتناول الإفطار الذي أعددته كعادتي منذ أن فارقتني أمه،فيلفظه من فمه،ويقول متأففا:
- طعمه مر!!
وبعدها ألبسه بذلته،وأحمله فوق كتفي،وأركض به جوادا يحمل فارسه النبيل،وتزفنا العصافير بزقزقتها فوق الأشجار المحيطة بالمنزل،ويهمس صوته في أذني:
- سنتأخر علي المدرسة.
وكانت المدرسة لا تبعد كثيرا عن منزلنا،فأسرع ،وأقص عليه قصة الأرنب الذكي،
يقول:
- أنا أذكي من الأرنب .
أرفع يديه إلي أعلي ،وأقول له:
- الذكي من يحصل علي أعلي الدرجات.
يضحك،فأستمع إلي أعذب موسيقي،ويقول مفتخرا:
- حصلت علي الدرجات الكاملة في الحساب.
أكرر وعدي له:
- سأشتري لك دراجة مكافئة تفوقك.
وتطلنا أبواب مدرسته،وأصحابه ينتظرونه ببذلهم البنية وابتساماتهم تزين وجوههم،ويشيرون إليه،فيتعجل النزول من علي كتفيّ،وبعناد شديد معهود به أرضخ فأنزله،وينطلق عابرا الشارع محلقا بجناحيه لينضم إلي زملائه ويتضاحكون بصوت عال.
وفجأة يلوح في الأفق شبح يدهس الأرض بإطاراته..أعمي ،مبتور الإحساس،ينفض غبار الأرض بسرعته الجنونية..يطلق زئيرا مرعبا،وينقض بشراسة،وترتفع حقيبة الكتب والكراسات إلي أعلي.. أعلي ،وترتد إلي الأرض بقوة،وأهوي معها إلي قاع سحيق مظلم..
ويصمت كل شيء إلا من شمسه الصديقة تئن خلف غيوم سوداء كثيفة.
وحين عادت الحياة إلي عيني تضاءل كل شيء حولي حتى صار أصغر من أن أراه.
مازالت كتبه وكراسته حبيسة حقيبته تفوح منها أنفاسه العطرة!!أمسكها وأضمها إلي صدري ،وهاتف لا يفارقني :
- لماذا تركتني يا حبيبي!!
========================================
إهداء إلي صديقي الذي انبت ابنه زهرة في قبر خاو..