دخلت إلى حجرتها منهكة
للتو فرغت من عبء يوم طويل .. شاق .. ممل ..
كانت عقارب الساعة تتعانق عند منتصف الليل ..
الكل يغط في سبات عميق..
الهدوء شلال ينساب بين أثاث البيت ..
ألم يتناثر هنا وهناك ..
آه يا أمي لمَ تركتِنا ….. ؟
كم شقينا أيتها الحانية بعد رحيلك ..
تنظر إلى أختها التي تصغرها .. نائمة هي في فراش متواضع رث ..
كفها الصغير ينام تحت خدها الأيمن
ينفرج ثغرها الصغير الوديع عن أسنان لامعة دقيقة كأسنان أمي ..
كلما نظرت إليها تذكرتك يا أمي ..
وهل نسيتك لأذكرك ….. ؟
جالت هناء بعينين كسيرتين منهكتين أرجاء المكان وراحت تلملم خصلات شعرها بكفين رقيقين وأنامل دقيقة شفها الحزن على أمها التي لم يمضِ على رحيلها إلا أقل من عام .
ألم غرسه أبوها في قلبها لن تنساه عندما لم يمهلها والصغيرة لأن تبكيان أمهما ..
فقد أتى بمن تحل مكانها وتملي عليه وحدته ……
هكذا قال وهو ينبئنا بنبأ زواجه الذي وقع علينا كالصاعقة .
سامحك الله يا أبي .. قالتها وهي تطرق برأسها
انتفضت فجأة وكأنها تذكرت أمر هاما ..
تجثم على ركبتيها بجوار الصغيرة النائمة ..
ترفع الغطاء عن جسدها النحيل
تكشف عن ظهرها ..
تغرورق عيناها بالدموع وهي ترى ما خطته قسوة زوجة أبيها على ظهر المسكينة ..
تحاول أن تفتح عينيها لتتحقق مما ترى ..
لا تكاد ترى شيئا فقد اختلطت في عينيها أبشع علامات القسوة التي رأتها ..
تلثم وجنة الصغيرة بقبلة لم ترها كافية فتضمها إلى صدرها
لم تعلم كم بقيت الصغيرة بين أحضانها
سامحك الله يا أبي .. قالتها وهي تجهش ببكاء مخنوق وحزن يكاد يعتصر قلبها الكسير
ألقت بجسدها المتعب على فراشها وراحت بفكرها تجوب أرجاء عالمها المتشح بالسواد
تذكرت أمها
تذكرت كيف أنها لم تكن تتركها تفعل شيئا من أعمال المنزل
فقط كانت تهتم بشؤون دراستها
تذكرت ابتسامتها العذبة الدافئة
تمنت الخلاص من كل هذا الجحيم الذي يلفها
متى سأتزوج .. ؟
تهز رأسها وكأنها تطرد الفكرة ..
أتزوج .. ؟
وأختي ..؟
هل سأتركها تعاني كل هذه القسوة بمفردها .. ؟
لالا لن أفكر بهذا ..
زوجة أبي تملك من القسوة ما يفوق قسوة الصخر الجامد الصلد
أبُ لاهٍ يغض الطرف كثيرا عن كل ما نلقاه منها ..
لم تعد إلى عالمها إلا عندما شق رنين الهاتف صمت المكان وهدأة الليل ..
ترى من يكون هذا ……. ؟
تنظر إلى ساعتها فإذا بعقاربها قد سبحت في بحيرة من المياه ..
تهزها بقوة .. لكنها لا تتحرك .. ساكنة كإحساسها بالحياة ..
كل هذا والهاتف يرن ويرن ..
ألو ….
جاءها من هناك صوت رخيم دافئ يقول :
أما زلت مستيقظة … ؟
من أنت ..؟
أنا من لا ينام حتى يغرقك تفكيرا …
آه يا صغيرتي كم أحبك ..
ينتفض جسدها .. تضع السماعة .. تعود إلى حجرتها .. رعشة تهزها .. قلبها يخفق بشدة
تشبك أصابعها علها تتوقف عن هذه الرعشة ..
دون جدوى
تندس في فراشها وتحاول عبثا أن تنام ..
تلك الكلمة لا تزال تتردد صدى في أذنيها ..
ترى من يكون ….. ؟
ماذا يريد مني …..؟
كاد قلبها أن يقفز من مكانه مرة أخرى عندما عاد رنين الهاتف يقض مضجعها ..
تضع وسادة على أذنيها ..
تتجاهله ..
لا تقدر ..
تثب من فراشها مسرعة .. يداها ترتجفان بشدة
تمسك السماعة بكلتي يديها ..
أحبك … صدقيني … أنا أحبك …
من أنت .. ؟
لا يهم … المهم أنني متيم بك إلى الثمالة ... مفتون بك حد الموت ..
هل تعرفني .. ؟
كيف لا أعرفك وأنت تسكنين قلبي .. ؟
إذا من أنا .. ؟
أنتِ حبيبتي هناء …
تصمت برهة وقد بدأ العرق يفتح طرقا في جسدها ..
ماذا تريد .. ؟
لا شيء فقط أردت أن أبث إليك إحساسا طالما حفظته لك وحدك ..
أرجوك .. لا أريد أن أسمع هذا ..
أعلم يا صغيرتي ولكن هذا مالا أملكه .. لا أستطيع السيطرة على قلبي ..
أرجوك لا تكوني قاسية هكذا ..
لقد جئتك محبا أضع قلبي بين يديك راكعا تحت قدميك فهل سترحمينه ..؟
حلقت هناء مع كل كلمة تفوه بها ..
لم تشعر بنفسها إلا وهي تبتسم وتنصت طالبة المزيد ..
حسنا ولكن من تكون .. ؟
أنا من يسكن بالطابق العلوي ي صغيرتي ..
من .. ؟
أبو …….. ؟
نعم أنا هو …. يضحك ..
وزوجتك ….. ؟
لا يهم ….. كل ذلك لا يهم .. المهم أنني أحبك .. ستكونين لي الزوجة والحبيبة بعد أن أطلق زوجتي التي لا أحبها ..
وأطفالك .. ؟
لا تهتمي سأتدبر الأمر ….فقط أريد أن أراك الليلة …
تراني …… ؟
أين .. ؟
لماذا …. ؟
سادت لحظة صمت طويلة ….
تهز رأسها بشدة …. ترفض ضعفها … تطرد أفكارها المجنونة وحاجتها إلى الدفء ..
تضع سماعة الهاتف بهدوء ..
تعود إلى حجرتها ..
تجلس بجوار الصغيرة ..
عاد الهاتف ليرن مرة ثالثة … يرن … يرن … يرن ..
لكنها لم تسمعه هذه المرة ..
فقط جاثمة بجوار الصغيرة ..
أقعدتها من نومها ..
جذبتها إليها ..
رأس الصغيرة يتمايل من غلبة النوم .. وظفيرتها تتدلى دونما ترتيب ..
ضمتها إلى صدرها ..
أجهشت في بكاء مرير مرير مرير …..
سامحك الله يا أبي ….. أين أنت يا أمي …
وجرس الهاتف لا يزال يعوي عواءً لم تسمعه هناء ..