عدت من تجوالي الصاخب . انتصبت قريتي أمامي عارية من كل جديد .. تمددت تحت ظل هارب من شجرته ، أصابع يدي متشابكة تحت قفاي ، وأنا أحلم بأنثى تائهة تقبض على حماقاتي ، وتعـتقل نزواتي .. حشرات طائرة تنازعني المكان ، وقفت ، جلست ..
أوقدت مصباح مخيلتي . فتحت أوجاع الماضي المالحة . تغاضيت عن زمن ولى من حياتي .. دفعتني نفسي للخروج من ذاتي ، بكل جهدي حاولت أن ألتقط شيئاً يذكرني بأهلي .. فغرقت بين ماض رهيب وحاضر بائس .. همساً قلت : فهل عندك أيها النهار شيئاً جديداً ..؟ ما أظن ..؟ أم أنك تسرد أحداثـك المملة كعادتك .. ؟
طفل يجري ، يختبئ وراء شجرة كبيرة ، التصق جسده الصغير بجذعها . يهذي ، يغني للفراغ ، على لحائها الأملس يسطر كلمات .. أين أنت .. أمي ..؟ لهج بالسؤال مرتين ، تأمل الحروف المعوجة .. غضب .. كشط لحاء الشجرة بحجرة مسننة .. ثم أسرع ليلحق قطيع غنمه ..
عن بعد ، حمار يركض ، ينهق ، تشمئز النفس لرنته .. صاحبه يجري ، يحاول أن يعترضه .. تعثر ، نهض ، لم جلبابه من جديد ، لكن بدون جدوى .. غير الحمار وجهته .. وقف العجوز يسترد أنفاسه ويداه على ركبتيه ..
عجوز نسيها الزمن . تستنزف ما تبقى لها من قوة . تحمل فوق ظهرها أخشاباً مصفوفة ، متساوية الطول .. تسرع في خطاها .. كلب يلهث من شدة الحر ، توقف ، لكنه غير مستعد لمهاجمتها .. اكتفى بالنباح .. العجوز تتابع سيرها ، لم تلتفت إليه .. تمر ولا تبالي ..
توقف صاحب سيارة فخمة ، ابتعد عن حافة الطريق ، أفرغ متانته ، اعتصر آخر قطرة ، والنشوة تفضفض بين فخذيه .. انطلق بسرعة جنونية ..
رجل يجري وراءه ، يشير بيده .. أعماه الغبار ، سب ولعن ، أيقظ عظام الأجداد ، من حين لآخر ، يلتفت وراءه عسى أن تمر سيارة أخرى .. بخطوات ميتة يبعثر الحصى بحذائه السميك ..
سيارة تأتي من الاتجاه المعاكس . اقتربت منه ، خفضت من سرعتها ، حياه السائق بيده اليسرى ، رد التحية بيده اليمنى .. تختفي السيارة تدريجياً .. توقف ، لاحقها بعينيه وعلى لسانه كلام غير ناضج ..
فجأة ، اختفت المشاهد من عيني . خلت الحارة من كل حركة إنسانية . نزعــت كــلاماً مـن جوفي وقلت : من يذكر أنني مررت من هنا .. كان لي بيت وشمس تسطع فوقه ، ذهب الأهل وما بقي إلا صبار يتيم يشهد على ولادتي ..
تعبت ، امتلأت عيناي دموعاً ، نظرت إلى الأفق، فرأيت نفسي ولم أر شيئاً في قريتي ..؟